يعتبر فرانسيس فوكوياما من بين أكثر الأكاديميين إثارة للجدل وهو صاحب الكتاب الشهير” نهاية التاريخ”، يشغل حاليا أستاذ كرسي برنارد ال. شوارتز للاقتصاد السياسي الدولي، ومدير برنامج التنمية الدولية في مدرسة الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة “جونز هوبكنز”.


يرى فوكوياما في كتابه “بناء الدولة” أن ضعف مؤسسات الدولة هو المصدر الأول للمشاكل الخارجية والداخلية، وفي ذات الوقت يرى بأن إضعاف مدى وظائف الدولة هو الحل لتلك المشاكل. كانت هذه أهم النظريات أو المفارقات التي دعا فوكوياما للأخذ بها، وهو يرى فيها حلاً لمشاكل العالم، لأن صاحب “نهاية التاريخ”، تعامل مع الدولة كنموذج موحد، وشامل، ومؤسسة عالمية واحدة. وعندما يتحدث عن دولة ما، يكون قد قرأ معها خارطة العالم، وعندما يُنظّر لليبرالية يكون قد اتكأ على كل النظريات الفكرية لإثبات جدواها، بما فيها “الماركسية” عدوته اللدود. حتى عندما يناقش مؤسسات العالم المتقدّم، ويفكر بتقويتها، عبر قضم مخالب الدولة الأم ووظائفها، يكون قد دخل إلى غياهب إفريقيا وناقش أسباب النهب والفساد هناك. فالعالم بالنسبة إليه وهو يتحدث عن بناء الدولة، يتكون من قطعة واحدة مسطحّة، مترابطة مشاكلها.
وما يميز قراءة فوكوياما للدولة، أو أي مؤسسة من مؤسساتها، أنه لا يكتفي بمناقشة الأسباب دون إعطاء الحلول، معتمداً عى أمثلة من التاريخ القريب، ما يجعل ربطه للأحداث داخل الكتاب قاسياً بعض الشيء، ولعلنا نرى أن تلك القسوة منبعها قساوة الأحداث ذاتها التي يعيشها القرن الواحد والعشرون، المثقل بمشاكله المعاصرة من ضعف التنمية، والفساد المؤسساتي، وانتشار الإرهاب، وكيفية تقديم الدعم للدول الضعيفة، بدلاً من ضخه على عواهنه، وكيفية التغيير الثقافي الذي يحَول أفراد المجتمع إلى متعاونين في النهضة. ولكن كعادته، تظل جرأته مبالغ فيها حين يناقش نظرية “الصدمة” التي ترتعد من سماعها أطراف الدول والأفراد، ويتخذها كسلاح أخير لفرض الليبرالية، ومن ثم إيجاد نموذج قوي من الصعوبة هدمه، لإطلاق شرارة البدء حتى للدولة المفقودة.
وصف فوكوياما كتابه “بناء الدولة” بأنه: ضرب من المشاكسة والخروج عن المألوف. وعندما نقرأ الكتاب سنكتشف مدى صدق ذلك الوصف. لأنه من أهم المنظرين للنظام العالمي الجديد، وبالرغم من أنه اتخذ العالم الغربي “مركزاً” لمناقشة الأطراف، إلا أنه لا يوفر النقد اللاذع للطريقة النمطية التي يتعامل فيها الغرب مع أطرافه، حتى لو كانت الطريقة ليبرالية بحتة، إذ يقول: “بأن هذه الإصلاحات الليبرالية الاقتصادية التي طبقت قد تركت كثيراً من دول العالم الثالث في وضع أسوأ بكثير مما كانت ستكون عليه فيما لو تجنبت هذه “الإصلاحات”. وعزا ذلك إلى “خلل مفهومات” في التطبيق.
الفصل الأول: أبعاد الدولة المفقودة
الدولة مؤسسة إنسانية قديمة، ارتبط نشوؤها منذ البداية بالمجتمعات الزراعية، التي نشأت في حضارة ما بين النهرين والصين، أما الدولة الحديثة التي ظهرت في أوروبا، والتي حشدتْ الجيوش الكبيرة وفرضت الضرائب وامتلكت بيروقراطية مركزية، فقد استطاعت فرض سلطتها على مناطق وأقاليم شاسعة.
وتتمتع الدولة عموماً بمدى واسع من الوظائف المختلفة، و”سلطة القسر والإكراه” التي تستطيع بواستطها توفير الأمن وحماية الملكية الفردية، وأشار فوكوياما إلى أن احتكار السلطة للشرعية تُجنِّب ما أسماه هوبز “حرب كل إنسان، ضد كل إنسان آخر” على الصعيد المحلي. وفي الوقت ذاته يُشكّل الأساس لكل الصراعات على الصعيد الدولي.
كما ونفى فوكوياما في كتابه صلة الإرهاب بالفقر، وأرجعها إلى تأخر وصول الحداثة الليبرالية إلى باقي المجتمعات النامية، مرجعاً ذلك التأخر لتقصير المؤسسات الغربية ووكالات التنمية في مد يد العون والنصح لدول العالم الثالث.
وفي الحديث عن دور الدولة وماهيتها، عارض فوكوياما ازدياد وظائف الدولة الديموقراطية، واعتبر تنامي تحكّم الدولة ملازماً لقلة الكفاءة، مما استوجب ردة الفعل “التاتشرية” في بريطانيا و”الريغانية” في أمريكا؛ وذلك بتخلي الدولة عن معظم أعباء القطاع العام، وتبني سياسة الخصخصة الشاملة. كما وساعد انهيار الحكم الشيوعي في المعسكر الشرقي، بما يمثله عملياً من فشل للدولة الشمولية المستأثرة، وبناءً عليه بدأت الصحوة الغربية الداعية للتحديث السريع، وظهرت على أثره النصائح التي أسدتها المؤسسات المالية، بالدعوة لتخلي الدولة عن شؤون الاقتصاد، مدللة بمدى التراجع الاقتصادي الذي تعاني منه دول العالم الثالث بسبب مؤسسات الدولة. ويرى فوكوياما أن تقليص دور الدولة في مجالات معينة، يجب ان يرافقه تقويتها في مجالات أخرى، وذلك بتخليها عن ما أسماه “مدى نشاطاتها” ، من أجل تقوية قُدرة “سلطة الدولة” على تخطيط وتنفيذ سياساتها وفرض القانون والشفافية.
وبتلك التفرقة، بين ما هو واجب في قوة السلطة، وما هو ثانوي في وظائفها، حتى الوصول لوظائف محض اختيارية تقوم بها الدولة وترتد بنتائج عكسية عليها. فمن واجب الدولة توفير النظام والأمن لمواطنيها قبل توفير النظام الصحي. وقسّم تقرير “التنمية العالمي” الذي أصدره البنك الدولي عام 1997، وظائف الدولة إلى فئات ثلاث:
– الدنيا: كـ الدفاع، حماية حقوق الملكية، الصحة العامة، إدارة الاقتصاد الجزئي.
– المتوسطة: كمعالجة المظاهر الخارجية، التربية والتعليم، حماية البيئة.
– الناشطة: كتنسيق النشاطات الخاصة، رعاية الأسواق، المبادرات الاجتماعية.
مع تأكيد فوكوياما على أنه ليس ثمة مقياس موحد لتحديد قوة مؤسسات الدولة، ضارباً المثال بمصر، التي تمتلك جهاز أمن داخلي قوي، في الوقت الذي تعجز فيه عن القيام بمهام بسيطة مثل منح ترخيص للمحال التجارية!. بينما استطاعت دول أخرى كالمكسيك والأرجنتين القيام بإصلاحات نسبية لبعض مؤسساتها كالبنك المركزي مثلاً. ونوّه إلى السلبيات التي اتبعتها بعض الدول وهي تقوم بتقليص مدى “وظائفها”، والتي قامت إما بالتقليل من قوة سلطتها، أو بتوليد الحاجة إلى أنماط جديد من قدرات الدولة التي كانت ضعيفة أو غير موجودة أصلاً. وقد عملت دول أخرى أثناء عملية الإصلاح على تقليص كلاً من مدى وقوة الدولة، كما حدث في الدول الواقعة جنوبي القارة الإفريقية، إذا تواجدت أنظمة حكم شاع تسميتها بـ”الوقفية الجديدة”، حيث سيطر على مؤسسات السلطة السياسية مجموعة من مؤيدي النظام، وقاموا بتسخير الدولة لمصالحهم الشخصية، وأحياناً – كما حدث في زائير- استطاع شخص واحد نهب موارد المجتمع. فبرامج التوازن والتكيّف البنيوي للاقتصاد، التي فرضتها الدول المانحة، كان لها نتائج عكسية، غير مقصودة، لكن الأنظمة الوقفية أخذت الشروط الخارجية ذريعة لتحجيم قطاعات الدولة، فانخفض الاستثمار في قطاعات البنى التحتية والزراعة والتعليم، لمصلحة الدولة الوقفية التي زادت إنفاق “الشؤون السيادية”. أما روسيا التي تحولت من النظام الشيوعي، فقد وجدت نفسها مرة واحدة غارقة برأس المال الأجنبي، مما أثر سلباً على مستوى الشفافية فيها، بدرجة أكثر سوءاً مما كانت عليه في ظل الشمولية؛ لعدم وجود أسواق فعالة تدعم سياسة الخصخصة، وغياب قدرة الدولة على التنفيذ، مما أدى لظهور طبقة الأوليغارشيين الجدد (الأقلية الغنية الحاكمة)، الذين سرقوا إرث الدولة من الموارد العامة.
أيهما أكثر أهمية من منظور الكفاءة الاقتصادية: تقليص مدى الدولة أم زيادة قوتها؟
ومع اعتراف الكاتب باستحالة التعميم، إلّا أنه ينحاز لقوّة مؤسسات الدولة، بدلاً من مدى وظائف الدولة، واستدل على ذلك بالنمو الاقتصادي المتسارع للولايات المتحدة، التي يقل فيها مدى وظائف الدولة، مقارنة ببطء النمو الاقتصادي لدول اوروبا الغربية، حيث مدى وظائف الدولة فيها أكثر. بالإضافة للأداء العالي لاقتصاديات شرق آسيا، مقارنة بدول أمريكا اللاتينية.
وفي كتابه “المسار الأخير”، سلّط “هرناندو دي سوتو” على التدقيق في أهمية قوة الدولة، فقام بإرسال فريق من الباحثين لعاصة البيرو “يما”، بهدف إنشاء شركة تجارية صغيرة، استغرق معهم الأمر عدة أشهر، تعاملوا خلالها مع أحد عشر مكتباً، بتكلفة 1231 دولاراً. بينما لم يحتاج الأمر لأكثر من يومين في دول تقل فيها وظائف الدولة، كأمريكا وكندا. وهو ما جعل من مقولة “المؤسسات مهمة” هي الحكمة الدارجة في عصر ما بعد الحرب الباردة، عندما زاد نفوذ المفكرين الاقتصاديين في وضع خطط التنمية، وهم يدفعون باتجاه الليبرالية الاقتصادية، حيث توصّلوا إلى قناعة بأن أهم التحولات التي تؤثر على التطور الاقتصادي لم تكن اقتصادية، بل كانت متعلقة أكثر بطبيعة المؤسسات ذاتها، وبالقضايا السياسية.
ثم ينتقل فوكوياما إلى تفكيك ما تعنيه عبارة “مؤسسات”، حيث يذكر أربعة جوانب متداخلة للدولة ينبغي تناولها لفهم طبيعة مؤسساتها:
– التصميم التنظيمي للإدارة: أي حيّز الدراسات الإدارية في القطاع الخاص، أو ميدان الإدارة العامة في القطاع الحكومي، حيث تُعتبر الإدارة العامة ويتفرّع عنها: مجموعة الخبرات والكفاءات التي يمكن للمرء تلقي تدريب وتعليم معتمدين فيهما.
– تصميم النظام السياسي: ويعتمد النظام السياسي على مؤسسات الدولة ككل، لا على مستوى الهيئات الفردية التي تشكّله فحسب، فهو بالنسبة للعلوم السياسية والإدارة العامة والشق التنظيمي العام، لا يقدم الجسم المعرفي الكامل على مستوى الدولة ككل، أو شمولية مبادىء الاقتصادي السياسي وقابليتها للتطبيق على كافة مستويات الدولة، مثال ذلك ما حدث في روسيا الاتحادية بعد انهيار النظام الشيوعي، حيث كان النظام الفيدرالي عاجزاً عن تطبيق سياساته الاقتصادية الموحدة، بما فيها الضرائب، على جميع دول الاتحاد الروسي، مما أدى لانهيار النظام الضريبي.
– أساس الشرعية: وهو مرتبط برؤية الشعب/النظام التحتي لمدى شرعية النظام “الفوقي”، إذ يجب أن لا تتعامل الدولة مع مواطنيها كأنها نظام قائم، بل أن ينظر إليها المواطنون كنظام شرعي، ومؤسسات شرعية تطبق القانون والعدل بشفافية على جميع رعاياها. وهو ما افتقده النظام الديكتاتوري في روسيا الشمولية، ونظرة الشعب إليه كنظام إداري مستبد يفتقد للكفاءة، مما أدى لنزع الشرعية عنه حال انهياره، بعكس النظم الديمقراطية التي تستبعد المستبدين وتعاقب الفاسدين، مما يضفي عليها شرعية من قبل مواطنيها تحفظ بقاءها.
– العوامل الثقافية والبنيوية: وهي القيم والمعايير والثقافة السائدة المرتبطة بالدولة المؤسساتية، وهي بعيدة عن السياسية المجرّدة، ولكنها تؤثر بإقامة أو منع إقامة مؤسسات حديثة. فتغيير شكل السياسة الرسمية العامة، يكون أقل تعقيداً من التغيير القواعد الثقافية الدارجة لصالح التطوير الاقتصادي. ويستشهد فوكوياما بـ ماكس فيبر الذي يؤكد أن الجذور الضاربة لثقافة المجتمعات الآسيوية، جعلها أقل عرضة لخطر الإضعاف أو التقويض، وصعوبة تحويلها إلى مجتمعات وقفية، كما حدث مع دول جنوب القارة الإفريقية. أي أنّ إخضاع مؤسسات الدولة للمساءلة في حالات الفساد، ومن ثم محاسبتها، ترتبط بعوامل ثقافية وقيم تربى عليها المجتمع.
وبعد تناول الفئات الأربعة السابقة لفهم طبيعة مؤسسات الدولة، يعود فوكوياما للفئة الأولى: تصميم المؤسسات وإدارتها، بما تمتلكه من صلاحيات وإمكانيات، بمقدورها أن تؤثر في طبيعة القيم الثقافية في المجتمع، وتغييرها لجعلها أكثر اعتماداً على نفسها في التطوير والمحاسبة.
واعتبر أنه مع كل محاولة للإصلاح والتغيير في المؤسسات، يَنتُج هناك خاسرون ورابحون، والخاسرون بطبيعة الحال سيقومون بالدفاع عن مصالحهم وامتيازاتهم المهددة جراء الإصلاح، بأي ثمن. وطرح الحل لهذا المشكلة بالتفاوض المباشر، حيث يجلس الرابحون والخاسرون معاً، ويتم تعويض الخاسرين عن خسارتهم في مقابل عدم إعاقتهم لعجلة الإصلاح الاقتصادي.
أسباب ظهور الحاجة لإصلاحات في فترة معينة؟
يرى فوكوياما أن الإصلاح يكون مثل التجارة، عرض وطلب، ويكون العرض مرتبطاً بالتحفيز. أما الطلب للإصلاح فيكون نتيجة لعدة عوامل، مثل التعرض لصدمة خارجية شديدة؛ كالكساد الاقتصادي، أو أزمة مالية، أو حدوث تضخم استثنائي أو ثورة. فالدول الأوروبية نشأت نتيجة الحاجة للحروب، وكذلك الأمر في التاريخ الأمريكي، الذي مر بحروب أهلية، وحربان عالميتان، وحرب باردة، أدت جميعها لحدوث عمليات مكثّفة لبناء الدولة الأمريكية. وأيضاً كانت عمليات الإصلاح التي قام بها محمد علي في مصر، نتيجة للصدمة الحضارية التي أصابت المجتمع المصري جرّاء حملة نابليون.
وفي معظم الحالات، نجحت عمليات إصلاح الدولة والبناء المؤسساتي، عندما استطاع المجتمع توليد طلب محلي ملحِ على المؤسسات ثم أوجدها بالكامل، وإما عن طريق استيردا جاهزة من الخارج، أو بتكييف النماذج الأجنبية وجعلها تتواءم مع الخصوصية المحلية.
مع الأخذ بعين الاعتبار أن عملية توليد الطلب على المؤسسات من الخارج، تكون نتائجها غير مشجعة عندما لا تقترن بطلب محلي للإصلاح، ويرجع أسباب ذلك الفشل أحياناً لبنية الحوافز التي تضعها الدول المانحة، إضافة إلى تشبث قادة الدول الفقيرة بنظام سياسي معين، من الصعب اختراقه.
ويستعرض الكاتب مصدراً آخراً لكيفية استيراد المؤسسات؛ عبر التعامل السياسي المباشر والقوي مع الحكومة المحلية، إما من قِبل دولة أو ائتلاف دول تمثّل احتلالاً، وهذا ما يسميه فوكوياما: “بناء الأمة”. ضارباً أمثلة عن نجاح بريطانيا في إيجاد مؤسسات مستديمة في مستعمراتها، كجهاز الخدمة المدنية في الهند، أو النظام القضائي/القانوني الذي أنشاته في سينغافورا وهونج كونج، والذي أسس للنمو الاقتصادي الحالي لتلك الدول. ولكن يظل هناك دائماً حدود للقدرة على نقل المعارف وإصلاح المؤسسات بين الدول، كما حدث في بعض الدول الإفريقية التي تراجعت أكثر مما كانت عليه إبان استقلالها، بحسب حكام البنك الدولي. ويرى فوكوياما الحل في تركيز الدول المانحة على خيارات واضحة وصعبة، تجعل من الدعم المقدّم للدول النامية منصبّاً على المؤسسات ذاتها، وليس على الخدمات التي توفرها تلك المؤسسات.
ويرى فوكوياما أن الدول النامية لا تزال كبيرة ومتورّمة في الوظائف التي تسعى للقيام بها، ولكن الأمر الأكثر أهمية لها هو زيادة قوة القاعدة التي ترتكز عليها تلك المؤسسات، لكي تستطيع تقديم الوظائف التي لا يقوى على تحملها سوى الحكومات، لأن المشكلة في عدم نضوج الحاجة للطلب المحلي على الإصلاح.
الدولة الضعيفة وثقب الإدارة العامة الأسود
يجادل فوكوياما بأنه ليس ثمة صيغة معينة، أو قالب واحد لبناء إدارة مؤسساتية جيدة، سواء بالنسبة للمؤسسات الحكومية أو الفردية الخاصة، من منطلق أن الإدارة ليست علماً، بقدر ما هي فن. وأن المساعدات الممنوحة للدول النامية، لتقوية إدارتها، يجب بالأساس أن تكون محلية الطابع، سواء بالتدريب أو الدعم.
أما المشكلة الرئيسية في إدارة المؤسسات من وجهة نظهره: هي (التخطيط المركزي) القائم على حساب حرية اقتصاد السوق، حتى في إدارة المؤسسات المتحدة الكبيرة، فهو يدعو لتبني هيكيلة (لامركزية) متعددة الأقسام. مختلفة عن التي سادت في الثمانينيات والتسعينيات، حيث أن هيمنة النظريين الاقتصاديين على السوق، حجبت تجارب كان من الواجب فرضها من قبل السوق نفسه.
ثم يناقش فوكوياما النظريات الاقتصادية، ويتخذ من نظرية “وليامسون”، التي تقول أن قصور أو محدودية العقلانية، تعني الاعتراف بعدم مقدرة طرفي العقد على توقّع كل الظروف المستقبلية الطارئة، أو فرض تدابير لتلاشي الانتهازية القائمة. إذ تركت العوامل الشخصية والسلوكية أثرها على العقود، ولذلك فالعقلانية بتراتبية ما، تعتبر نوع من السلوك الفردي، وبالتالي فالمؤسسات هي عقود عمل بين أفراد، والسوق بطبيعتها أذكى من الأفراد.
ويشير الكاتب لتحذير” بيرلي” و” مينز” الذين اعتبرا أن فصل الإدارة عن الملكية في الشركات الحديثة، يؤدي لتبعات خطيرة.
أما القطاع العام، فهو بالنسبة لفوكوياما أشبه بما يحدث في الساحة السياسية الديمقراطية، عندما يفضّل السياسيون المنتخبون، منتخبيهم على غيرهم، فيحدث الفساد السياسي. تماماً كما يحدث في القطاع الاقتصادي العام، عندما يضع الموظف الحكومي مصلحته الخاصة فوق مصلحة المؤسسة.
ويلفت النظر إلى أساليب الإدارة الحديثة التي تحاول ربط مصلحة المسؤول فيها، بمصلحة الموظف، ليحدث التكافل بين الطرفين، لتحقيق المنفعة الذاتية الفردية. ويبرهن فوكوياما على صعوبة وجود صيغة تنظيم مؤسساتي أمثل من الآخر، خصوصاً لهيئات القطاع العام، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: عدم وضوح أهداف العديد من المؤسسات، فالوكلاء لا يستطيعون تنفيذ ما يريده الرؤساء، إلا عندما يعرف الرؤساء ما يريدونه من الوكلاء فعلاً.
وهذا الغموض التنظيمي سببه التباس أهداف المؤسسة التي غالباً ما تكون غير واضحة، أو متناقضة أو سيئة التعيين. إذا حدثت مشاكل في الشركة، مثل الفساد أو مخالفة القانون أو حتى الخمول البيروقراطي أوالتقاعس البسيط في الأداء، فمردها السلوك النفعي للوكيل الذي لا يشترك مع الرئيس في بنية الحوافز نفسها.
ويشير فوكوياما إلى أن العديد من الصراعات التي تحدث بين الرؤساء والوكلاء، هي نتيجة اختلاف وجهات النظر، لكيفية تنفيذ الأهداف. بالإضافة لتقسيم العمل، وإيكاله لأشخاص مختلفين يؤدي للتأثير على الأهداف العامة.
ثانياً: نظم المراقبة والمحاسبة في الإدارات العامة تزيد من تكلفة التعاملات الاقتصادية.
من الصعب بمكان قياس ومراقبة نتاج كل وكيل أو موظف في القطاع العام؛ لأن القطاع يقدم خدمات متنوعة صعبة القياس. ويقترح فوكوياما آلية لمراقبة النشاطات المنخفضة لدى الوكلاء، وذلك عبر “المنافسة”، ولكن هذه الميزة لا تتوفر لدى مؤسسات القطاع العام، بسبب صعوبة قياس انتاجيته.
ويضيف، إن الاقتصاديين الكلاسيكيين حاولوا عبثا إيجاد حوافز لجعل الموظف يكشف عن إنتاجيته، ولكن هذه الطريقة فشلت بسبب انطباعات سلوكية عن العامل؛ بأنه يأخذ أجره باهظاً ومن ثم يتحايل في بذل الحد الأدنى من جهده، ولكن الحقيقة أن العمال لا يراوغون إلا في الحد الأدنى الضروري.
النظرية “التايلورية”
ومن ثم ينتقل ليستعرض النظرية “التايلورية”، القائمة على التقسيم المنهجي للعمل إلى مهام صغيرة وبسيطة، ويقدّم هذا النظام العالي التراتبية “الرأسية” مستوى عالي من الشفافية في سلوك العامل ومراقبته ومحاسبته. ومن عيوب هذه التراتبية الصارمة، كلفتها العالية، وبيروقراطيتها. ويجري حالياً استبدال هذا النظام بنظام آخر أكثر “أفقية” وتسطيحاً، عبر منح الشريحة الدنيا في التراتبية قدراً أكبر من المرونة بالصلاحيات وحرية أكثر بالتصرّف.
ويطرح فوكوياما المؤسسة العسكرية كمثال متطرف عن الطريقة التي يمكن للمؤسسات العامة من خلالها الاستفادة من الأعراف السائدة ورأس المال الاجتماعي. فالحوافز المادية وحدها لا تدفع الفرد للتضحية بحياته في المعارك، ولكن يتم بذلك عبر تعزيز الهوية الجماعية للأفراد، والتقاليد والطقوس الاجتماعية أثناء التدريب، فلا يجوز الإشارة لجندي البحرية الأمريكي من قبل المدربين باسمه، دون أن يسبقها تعريف: “جندي البحرية فلان…”. وذلك يخلق في نفوس أفرادها إحساساً قوياً بوجود ثقافة مشتركة، تدفعهم إلى التماهي مع أهدافها.
ومن ثم يتساءل فوكوياما: عن الكيفية التي يمكن معها لأي مجتمعات، تقديم خدمات عامة معقولة أنجح من غيرها؟
ترتبط أول الإجابات بطبيعة الإمكانيات المتوفرة. بطبيعة الحال تكون المؤسسات ضعيفة التمويل أقل كفاءة على كافة المستويات، وهو ما تواجهه المؤسسات في الدول الفقيرة، بسبب ضعف التدريب، وضعف البنى التحتية فيها، وصعوبة تقديم خدماتها.
وفي المقابل، تزداد أشكال الهويات المختلفة في المجتمعات الحديثة، ويتضاعف معها عدد الجماعات والأعراف التي يشعر الأفراد بالتعلق بها والانتماء إليها، ويحدث ذلك تلقائياً داخل العمل، ويكون الحافز عن مدى انتماء العامل لتلك الهويات، بحيث تكون السيادة لتلك الهوية السائدة في المؤسسة، فيسعى العامل تلقائياً لسرعة الاندماج بما هو مقتنع به، وبذل مجهود مضاعف من أجل الوصول لتراتبية أعلى.
وبالنسبة لـ فوكوياما، فإن قوة كاريزما القائد أو المسؤول لها دور هام داخل أي مؤسسة، ليس فقط في التنفيذ وإشاعة القوانين، بل في خلق الأعراف واستنباط المعايير وترسيخها. فالمؤسسات القوية كما القوة العسكرية، تركز على تدريس فن القيادة باعتباره جزء من هويتها المؤسساتية.
وعلى العكس من ذلك، تبقى القيادة البيروقراطية نمطية في تعملها مع الأعراف، إذ تستجلب الأعراف من محيطها، بدلاً من ابتكار نظام قيادة مؤسساتي.
ثالثاً: لأن الدرجة المناسبة من السلطة والصلاحية المفوضة، تختلف تبعاً للظروف التي تواجهها المؤسسة، فإن ثمة أسباب تدعو للاعتقاد بأن درجة الصلاحيات الممنوحة وظيفياً تعتمد على مدى تطور التكنولوجيا، وبالتالي فهي متغيرة مع مرور الزمن، وهو ما تطرق إليه هايك (1945) عندما أشار إلى أن ازدياد تعقيد التكنولوجيا الاقتصادية، يفرض درجة أعلى من اللامركزية في صناعة القرار الاقتصادي.
كما أن نقل سلطة اتخاذ القرار إلى التراتبية الدنيا، يجعل المؤسسة أكثر تفاعلاً مع متغيرات البيئة الخارجية. وتزداد معها الحاجة إلى نقل الصلاحيات عندما يكون عمل الوكيل بحاجة للاجتهاد والحكمة، وينطبق ذلك على السياسة، كما المؤسسات، تحت مسمى الفيدرالية.
ويخلص فوكوياما إلى أن اللامركزية لها حسنات ومثالب. ومن أهم عيوب اللامركزية ما يرتبط بالأخطار المترتبة على تفويض السلطة، لأنه يخوّل المستويات الدنيا بالمخاطرة في أخذ القرارات، وهو ما يكون ملائماً في بعض التخصصات، كالابتكار التكنولوجي. كما تكون هذه العيوب ملازمة في الفيدرالية السياسية، حيث أن منح الصلاحيات لولايات يؤدي لتفاوت في الأداء الحكومي، أما في دول العالم الثالث، فيمكن أن يؤدي نظام “الرعاية الزبائنية” إلى الاستحواذ على السلطة والسطوة، وتجاوز المتنفذين للمحاسبة والرقابة الخارجية.
ثم يشير إلى القول المأثور لأرسطو “الحكم بسلطة القانون، لا بسلطة البشر”، فقد قامت الدولة الدستورية الحديثة وسلطة القانون، على صلاحيات مؤسسات الدولة، لأن حكم القانون لوحده لا يكفي، من دون إيجاد حكومة فاعلة تتمتع بسلطة حيوية ومقدرة على التصرف.
وبعدها ينتقل إلى ما أسماه إعادة اختراع العجلة، فالنظريات الاقتصادية جميعها مجردة، وتفترض وجود قواعد كونية للسلوك الإنساني، وهو ما فرض صرامة للبحث عن الكمال المؤسساتي. وهو ما يكون مستحيلاً مع فرض التأطير المنهجي لدراسة إدارة الأعمال، لأسباب متأصلة بصلب الموضوع، لذلك وضع بيتشستر برنارد كتاب “وظائف الجهاز التنفيذي” الذي يرد فيه على فريدريك تايلور والفهم الميكانيكي الذي أشاعته التايلورية للمؤسسات (التايلورية قائمة على التقسيم المنهجي للعمل إلى مهام صغيرة وبسيطة)، حيث وافق برنارد في كتابه على تشجيع المؤسسات على التعاون بمبدأ نظام الحوافز العقلانية.
يهتم فوكوياما كثيرا بمسألة بناء القدرة المؤسساتية في ظل الغموض التنظيمي، أي المضامين السياسية، ويشير هنا إلى مقولة هايك “إن معظم المعارف في اقتصاد ما، تبقى محلية الطابع”.
وبالمقارنة مع القطاع الخاص، يعتبر فوكوياما أن المأخذ الأهم على إدارة القطاع العام، أنها لا تخضع لمنطق المنافسة والانتخاب في عملية التطور الدارونية الصارمة التي تخضع لها المؤسسات الخاصة.
ثم يعود الكاتب لمناقشة المنح المقدمة من المؤسسات الدولية، ويوضح أن القدرة المؤسساتية لا تنتقل من مجتمع إلى آخر عبر مجموعة إداريين لامعين، يتم استيرادهم من العالم المتقدم لإعطاء محاضرات. وينصح الكاتب الجهات المانحة إلى منح هباتهم وخبراتهم مباشرة إلى الهيئات الحكومية في الدول لبناء قدراتها. وينبغي لتلك المؤسسات ألا تضع شروطاً محددة حول كيفية استخدام هذه الموارد، بل أن تفرض معايير صارمة للمحاسبة بغية الحصول على أنماط إنتاج معينة، وهو ما يحتاج لملكة الصبر.
وأخيراً، اعتبر فوكوياما أن علم الاقتصاد هو أمير العلوم الاجتماعية في نهاية القرن العشرين؛ لما للأسواق الاقتصادية من قدرة على تحليل السلوك الإنساني، اعتماداً لمقدرتها على الملاحظة التجريبية الصارمة، ومن ثم امتلاكها لقدرة تنبؤية مهمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق