العلاقات الدولية: جدلية النظريات والأيديولوجيات - مدونة تحليل السياسات

اَخر المشاركات

منصة إلكترونية تعنى بقضايا المعرفة السياسية

الخميس، 27 سبتمبر 2018

العلاقات الدولية: جدلية النظريات والأيديولوجيات

             د. هشام الهداجـــــــي


      يعد تخصص العلاقات الدولية تخصصا مركبا يركّز على محاولة تفسير الفعل السياسي للقوى الفاعلة في السياسة الدولية، من هنا جاءت الأهمية الكبيرة للنظريات لتقديم جملة افتراضات وحدوس مؤسسة معرفيا، تسعى لخلق روابط منطقية بين النظرية وبين الواقع للجواب على القضايا والإشكالات  المطروحة، غير أن الرهان هنا هو التقليص من هامش السقوط في فخ الإيديولوجيات بشكل مباشر وفظ.     
       تبين المراجع الحديثة والرئيسة بهذا الشأنDiscipline and Diversity) : Relations Theories International : (Steve Smith- على سبيل المثال لا الحصر- أننا باستخدامنا لمصطلح "العلاقات الدولية International Relations /" كتخصص، نكون قد اتبعنا العرف الأكاديمي الذي يفرق بين "تخصص العلاقات الدولية" الذي يشار إليه باللغة الإنجليزية اختصارا بالحرفين الأولين البارزين (IR) ، في دلالة على الدراسة الأكاديمية لمبحث العلاقات الدولية كتخصص واسع قائم بذاته، يشتمل على العديد من الحقول الفرعية، ومركز جاذبيته هو نظرية العلاقات الدولية. بينما تتم الإشارة إلى "العلاقات الدولية"  international relations   بالأحرف الصغيرة من دون إبراز، اختصارا لطبيعة المواضيع والقضايا التي تعالجها (الدول،المؤسسات الدولية، المنظمات...). ويمكننا ذلك التمييز من الوقوف على سوسيولوجيا المعرفة لتخصص العلاقات الدولية، باعتبارها فرعا من فروع المعرفة يسعى للإجابة على السؤال المركب : كيف ومتى أصبح هذا الحقل المعرفي تخصصا مستقلا،وما هي طبيعة ونوعية مباحثه؟ 
       يكاد يجمع أصحاب الاختصاص على أن النظرية لا غنى عنها لأنها تساعدنا في فهم وتفسير القوى والديناميات المتحكمة في السياسات العالمية، سواء كان موضوع البحث متعلقا بقضايا الأمن العالمي أو بالسياسة الخارجية أو بالعلاقات بين المنظمات ...إلخ، ذلك الفهم والتفسير يتم من خلال توظيف نظريات كلاسيكية ( الواقعية، الليبرالية، الماركسية، البنيوية ... ) أو أخرى حديثة (مابعد الكولونيالية، الواقعية الجديدة، الليبرالية الجديدة، النسوية، النظرية الخضراء ...). غير أن تقديرات المختصين تتباين بشأن هذا التعدد وجدواه، بين من يعتقد بأنه لا يعمل سوى على هدر جوهر التخصص الذي يدور حول دراسة القوى المحركة للصراع أو تلك الدافعة للتعاون، وبين من يعتبر أنه محمود لأنه يفتح آفاقا معرفية جديدة كامنة، ويواكب التغيرات والتهديدات التي تحدق بالعلاقات بين الدول.
       تخول لنا النظريات من خلال فرضياتها المتنوعة تقديم التفسيرات الممكنة لأسباب ما وقع من حوادث في مجال العلاقات الدولية، ذلك أننا لو طرحنا السؤال على أي مختص في هذا المجال عن أي قضية دولية (التغيرات المناخية،الحرب على الإرهاب،الهجرة ...الخ)،فلن نظفر بتفسير موحد متعارف عليه، بقدر ما سوف تُقدم لنا تفسيرات مختلفة تبعا لاختلاف النظريات، حيث أن كل باحث ينطلق في تحليلاته مرجحا جوانب وقضايا معينة على حساب أخرى أقل أهمية بالنسبة إليه، فهناك من يركز على المعطى القانوني والمؤسساتي الدوليين، وهناك من يركز على طبيعة السياسات الدولية المتبعة، كما نجد من يعطي الأهمية الأكبر للعامل الاقتصادي والمالي ...
        إن توافر هذا العدد من نظريات العلاقات الدولية المتنوعة في "سوق التحليل الدولي"، يجعل سؤال الضرورة الأكاديمية سؤالا مشروعا،ذلك أن المتابع لتاريخ تخصص العلاقات الدولية على امتداد عقود خلت،يلفي نوعا من النقاش والجدل المستفيضين بين تلك النظريات ومدى صلاحيتها الإجرائية وقدراتها التفسيرية للأحداث والوقائع الدولية. حيث كانت الهيمنة للنظريات الكلاسيكية الثلاث (الواقعية، الليبرالية والماركسية) منذ ثمانينيات القرن الماضي، فيما أصبح النقاش الأساس يدور بين أنصار النظرية الواقعية وبين أتباع النظرية الليبرالية، ثم تقدمت النقاشات تلو الأخرى، لتهيمن في العقد الأخير  من القرن الجاري تفسيرات النظريتين: الواقعية الجديدة (Neorealism) والليبرالية الجديدة (Neoliberalism).
       ذلك الجدل الطويل حول ضرورة تعدد النظريات في تفسير قضايا العلاقات الدولية، يندرج ضمن الكتابات الأكاديمية المختصة في سياق ما يعرف ب " الحوار بين النماذج المعيارية"، حيث أن مختلف النظريات كانت تتوخى جذب الانتباه إليها باعتبارها الأقدر على تفكيك ألغاز النزاعات والصراعات الدولية. غير أن طبيعة وحدود ذلك الحوار مبالغ فيهما،فالملاحظ أن هيمنة النظرية الواقعية على تخصص العلاقات الدولية في فترة معينة، إنما يعزى إلى ادعائها القدرة على تفسير بنية الثنائية القطبية في النظام الدولي (جانب المواجهات العسكرية خصوصا)، بينما زعمت النظرية الليبرالية القدرة على تفسير مجمل القضايا ذات الصلة بالتجارة والاقتصاد الدوليين. وبالموازاة معهما كان اللجوء إلى النظرية الماركسية لا محيد عنه لتفسير آليات الهيمنة وما ينتج عنها من لا مساواة  اقتصادية واجتماعية ومجالية.
         بيد أن الأمر الذي اختلفت فيه هذه النظريات هو تحديد أي الوقائع الكفيلة بأن تكون أساس تركيز التخصص  دون غيرها، فإذا كانت الواقعية قد ركزت على موضوعة الحرب الباردة، والليبرالية ركزت على مجال الاقتصاد الرأسمالي، فإن الماركسية قد ركزت على نتائج الهيمنة الاقتصادية والمالية. والنتيجة لكل ذلك هي أن الجانب الأكاديمي (التخصص) غير مستقل عن الجانب السياسي، بل في الغالب الأعم  لا يعدو التخصص سوى مسوغا "علميا" لتبرير السياسات الدولية، ووقائع العلاقات الدولية تزكم الأنوف بتلك التبعية وما ينتج عنها. وإذا أردنا التشخيص يمكن أن نقول،أن الباحث الذي يعيش في بلد "آمن و بعيد" عن الأخطار والتهديدات الأمنية،غالبا ما يلجأ إلى التركيز على العلاقات الإقتصادية والسياسية، بينما يهتم الباحث الذي يعيش في بلد أو محيط إقليمي يعرف نزاعات أو حروب، بالتركيز على مسببات ونتائج تلك النزاعات بشكل مباشر. وفي ظل هذا الواقع نجد أنفسنا أمام أيديولوجيات سياسية أكثر مما نحن أمام نظريات علمية .
        إلا أن تلك الاختلافات الواضحة بين نظريات العلاقات الدولية لم تمنع عنها بعض المشتركات،حيث يمكننا القول بأنها تلتقي في ثلاثة منطلقات (فرضيات) رئيسة : أولها، يتمثل في حرص أغلب المختصين على الالتزام بضرورة وأهمية النظرية في تفسير وفهم الأحداث والأفكار  في تخصص العلاقات الدولية، على خلاف البعض الذي لا يرى فيها سوى وسيلة لجعل الأمور أكثر تعقيدا وتأزما،مما يشجع على عدم اعتمادها عند مقاربة قضايا هذا التخصص. وثانيها، يركز على اعتبار أن لكل تلك النظريات تاريخ معين، ولو أنه تاريخ لم يتكون كله في سياق التخصص،ذلك أننا نجد في مقابل النظريات الكلاسيكية (الواقعية،الليبرالية،الماركسية،المدرسة الانجليزية،النقدية ...) التي تستند على مقاربات رائجة وقارة منذ قرن من الزمن، بعض النظريات الأخرى ( ما بعد الكولونيالية،ما بعد البنيوية، النسوية، الخضراء ...)التي  تم التأسيس لها على امتداد خمسة عقود الأخيرة تقريبا، بالاستناد إلى كتابات أكاديمية تنتمي إلى تخصصات معرفية أخرى. وثالثة الأثافي تتمثل في اشتراكها في طرح تصورات متنوعة للربط بين النظرية والواقع المراد تفسيره  بغية تقديم التفسيرات الأكثر تماسكا وإقناعا.

       باحـث في العلوم السياسية


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق