محاولة في فهم المشهد السياسي بالمغرب ما بعد انتخابات 7 أكتوبر2016 - مدونة تحليل السياسات

اَخر المشاركات

منصة إلكترونية تعنى بقضايا المعرفة السياسية

الخميس، 6 سبتمبر 2018

محاولة في فهم المشهد السياسي بالمغرب ما بعد انتخابات 7 أكتوبر2016

ذ.الأمراني علوي محمد


الملخص التنفيذي:
إن هذه الورقة تحاول فهم ما يعتمل المشهد السياسي بالمغرب ما بعد الاستحقاقات الأخيرة، وتعثر تشكيل حكومة عبد الإله بنكيران الثانية ثم الانتقال
إلى شخصية ثانية من حزب العدالة والتنمية وانفراج أفق تشكيلها بقيادة سعد الدين العثماني رئيس المجلس الوطني للحزب العدالة والتنمية، فهذا التعثر بقيادة شخصية بنكيران يحرك سؤال الأسباب الكامنة وراء عدم تمكنه من الحصول على أغلبية حكومية، خاصة تشبثه بحلفاءه السابقين، فلماذا فشل السيد بنكيران ونجح السيد سعد الدين العثماني؟ هل هي إعادة ترتيب المشهد السياسي، بعدما خفت وهج الربيع العربي؟ كما أن الأحداث ما بعد الانتخابات تحرك سؤال التجربة الإسلامية بالمغرب؟ 

مقدمة

شكل تاريخ 7 أكتوبر 2016 فارقة في الحياة السياسية وفي التجربة الانتخابية المغربية، إذ يرمزلتاريخ إجراء ثاني انتخابات تشريعية، ما بعد أحداث الربيع العربي، بعدما تم تنظيم أول انتخابات تشريعية في 25 نونبر 2011، حيث نظمت في ظل الدستور السادس للمملكة الصادر في فاتح يوليوز من سنة 2011.
لقد كانت محطة 7 أكتوبر، محطة تساءل بحدة تجربة الإسلام السياسي بالمغرب، خاصة وأن تجربة الإسلام السياسي في بلدان الربيع العربي لم تعمر طويلا وسرعان ما تم إقفال قوس هذه التجربة، لكن خلافا لذلك فإن تجربة حزب العدالة والتنمية، الذي يمثل هذا التوجه والتيار، قد أكمل ولايته الأولى بالرغم من العراقيل والصعوبات التي واجهها طيلة فترة الخمس سنوات خاصة محاولة إفشال هذه التجربة إبان قرار حزب الاستقلال الرامي إلىالخروج من الحكومة، التي لم تستكمل آنذاك سنتها الثانية.
إضافة إلى ذلك فإن هذه الانتخابات التشريعية كانت بمثابة امتحان ورهان لحزب العدالة والتنمية على وجهتين، من وجهة أولى امتحان يساءل تجربة التدبير الحكومي للحزب التي تعد الأولى بالنسبة إليه، خاصة وأن الولاية الحكومية عرفت اتخاذ قرارات لم يكن من السهل اتخاذها وتنفيذها، أما الوجهة الثانية، اختبار مدى تمسك ورغبة المؤسسة الملكية في إبقاء القوس مفتوحا على تجربة العدالة والتنمية وقيادتها لمؤسسة الحكومة بقيادة عبد الإله بنكيران.
لقد جرت الانتخابات في جو أقل ما يمكن أن يوصفبه أنه  أقل سوءا من سابقاتها، وأقرب إلى النزاهة والشفافية، وأسفرت على حصول حزب العدالة والتنمية على125مقعدا وتبوؤه بذلك المرتبة الأولى، إذ منذ حصول المغرب على الاستقلال لم يسبق لأي حزب سياسي أن حصل على هذا العدد من المقاعد خصوصا في ظل النظام الانتخابي المعتمد.
وفي ظل هذه النتائج وطبقا لما ينص عليه الدستور وتحديدا الفقرة الأولى من الفصل 47، التي تلزم الملك بتعيين رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر نتائج انتخابات مجلس النواب وعلى أساس نتائجها، وتبعا لذلك سيعين الملك الأمين العام لحزب العدالة والتنمية عبد الإله بنكيران رئيسا مكلفا بتشكيل الحكومة بتاريخ 10 أكتوبر 2016.
وبناء عليه، بدأ رئيس الحكومة المعين من لدن الملك، إجراء مشاورات ومفاوضات مع الأحزاب الممثلة داخل مجلس النواب، باستثناء حزب الأصالة والمعاصرة الذي اختار منذ الثامن من أكتوبر مقعد المعارضة داخل مجلس النواب، وقد استحضرت في خضمها إحياء ما يسمى بالكتلة الديمقراطية بمعية حزب العدالة والتنمية، إلا أن المؤشرات العامة كانت تذهب في اتجاه الحفاظ على نفس التحالف الحكومي السابق، مع الانفتاح على حزب الاستقلال بعد صفاء الأجواء بين أمينه العام وحزب العدالة والتنمية. 
لكن استقالة صلاح الدين مزوار من الأمانة العامة لحزب التجمع الوطني للأحرار، سيبعثر حسابات عبد الإله بنكيران، وانتظاره لإنعقاد مؤتمر حزب التجمع الوطني للأحرار وانتخاب أمينا عاما جديدا للحزب، الذي لن يكون سوى وزير الفلاحة والصيد البحري في حكومة عبد الإله بنكيران، عزيز أخنوش، الذي سيقود تحالفا مكونا من حزب الاتحاد الدستوري وحزب الحركة الشعبية ثم حزب الاتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية، وتشبثه بضرورة إبعاد حزب الاستقلال من التحالف الحكومي، الأمر الذي سيصعب من مهمة عبد الإله بنكيران.
في غمرة هذه الأحداث، وعلى اثر تصريحات الأمين العام للحزب الاستقلال تجاه الدولة الموريتانية، والتي أثارت أزمة دبلوماسية بين البلدين، سيقوى الضغط على حزب الاستقلال، الذي قرر بعدها عدم الدخول للحكومة لكنه أثار إلى أن يقدم المساندة لرئيس الحكومة المعين، لكن هذا الموقف لم يقدم جديدا في ما يخص عسر ولادة الحكومة، فتشبث بنكيران بالتحالف الحكومي السابق، وصلابة موقف عزيز أخنوش بضرورة إشراك حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في التحالف الحكومي، سيدخلنا في حرب البلاغات بين الأحزاب السياسية، وتعثر تشكيل الحكومة لما يزيد على خمسة أشهر دون التوصل إلى نتيجة تذكر.
وبتاريخ15 مارس 2017، سيصدر بلاغ للديوان الملكي بإعفاء السيد بنكيران من مهمة تشكيل الحكومة، وتعيين شخصية أخرى من نفس الحزب، أي من حزب العدالة والتنمية، هذا البلاغ الذي كان بمثابة الصدمة المفاجئة على قلوب أعضاء الحزب، الذين قد أجلوا مؤتمرهم سنة كاملة من أجل تمكين عبد الإله بنكيران من قيادة الحكومة لولاية ثانية، ليفتح الباب أمام الرجل الثاني في الحزب، سعد الدين العثماني رئيس المجلس الوطني، الذي سيكلفه الملك بتشكيل الحكومة بتاريخ 17 مارس 2017.
هذا بخلاصة موجزة حول الأحداث والمخاضات التي امتدت منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات إلى حدود كتابة هذه الأسطر، لكن غايتنا ليست بسط هذه الأحداث التي لا تبدو خافية على المتتبعين للمشهد السياسي بالمغرب، والتي تخفي الكثير من الصراعات والحسابات السياسية، غايتنا من هذه الأسطر محاولة استجلاء قدر الإمكان واستنطاق مختلف المعطيات والأحداث في علاقتها بمسلسل الانتقال الديمقراطي بالمغرب، وفق المحاور التالية:

المحور الأول: محاولة في فهم الأسباب الثاويةوراء تعثر تشكيل الحكومة

إن تاريخ 15 مارس من سنة 2017 سيظل استثنائيا في مسار الإسلاميين المغاربة وبالتحديد في تجربة حزب العدالة والتنمية، تاريخ يدشن في جميع الأحوال انطلاقة جديدة باتجاه الوراء أو إلى الأمام. فالحقائق والظروف التي أحدثها سحب التكليف الملكي من عبد الإله بنكيران ليلة الأربعاء 15 مارس، تؤسس لمرحلة جديدة في علاقة إسلاميي العدالة والتنمية بمؤسسة القصر ومكونات المشهد السياسي والنخب. 
على المستوى الدستوري، جدير بالإشارة أن الدستور لم يقيد رئيس الحكومةبأية مهلة لتشكيل الحكومة، فقد ترك الباب مفتوحا على مصرعيه، عكس ما هو معمول به في بعض الأنظمة المقارنة التي تقيد رئيس الحكومة بمهلة لتشكيل أغلبية حكومية، وتقديم حلول واضحة في حالة فشل الحصول على الأغلبية البرلمانية اللازمة، لكن عدم تنصيص المشرع الدستوري المغربي على فترة زمنية محددة لتشكيل الحكومة، لا يفيد فهم المسألة على إطلاقيتها، فرئيس الحكومة المعين يخضع لرقابة رئيس الدولة الساهر على احترام الدستور، وعلى حسن سير المؤسسات الدستورية وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، إذ بمقتضاها أي الصلاحيات المنصوص عليها في الفصل 42 من الدستور، قرر الملك تعيين شخص آخر من حزب العدالة والتنمية، وبالتالي فإن تكليف رئيس الحكومة بتشكيل حكومة يقع تحت طائلة مراقبة رئيس الدولة وبما تخوله هذه الصفة من اتخاذ القرارات الضرورية لضمان سير المؤسسات الدستورية وضبط الحياة السياسية.
إن الانتقال من تعيين الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، إلى شخصية ثانية من نفس الحزب، الذي قد تتجاوز قدرته على التفاوض وعقد التحالفات الحزبية لتوفير أغلبية برلمانية مساندة للحكومة قد يمكن من الوقوف على طبيعة العراقيل التي اعترضت تشكيل الحكومة، وما إذا كانت تتعلق بالشخص، أو بالحزب، أو بكل بساطة بعرقلة الإرادة المعبر عنها بواسطة صناديق الاقتراع، للزج بمحاولة تشكيل الحكومة في الاعتبارات السياسية بل والسياسوية، هذه الاعتبارات التي لا نستبعد منها مقاومة شرسة لتأسيس ميزان قوى بناء على قانون الأغلبية .
وفي محاولة لفهم طبيعة العراقيل أو المسببات التي حالت دون تشكيل حكومة عبد الإله بنكيران الثانية، سوف نحاول الوقوف على مجموعة من النقاط التي تبدو موضوعية في استحالت وتعثر تشكيل الحكومة:

أولا: الخطاب والسلوك السياسي لعبد الإله بنكيران

خلال الفترة التي ترأس فيهاعبد الإله بنكيران الحكومة، اشتغل بطريقة غير تقليدية مختلفة عن تلك التي طبعت رؤساء الحكومات السابقة وأبرزها مهاراته التواصلية العالية، التي مكنته من احتلال حيز واسع في النقاش العمومي بشكل مستمر، هذا بالإضافة إلى عدم تحفظه عن الكلام فيما يخص الصعوبات التي وجدها أثناء عمله كرئيس حكومة،  وكذا اللقاءات التي جمعتهبالملك.
لقد تميز في بدايته بخرجاته الإعلامية المتكررة والمتواترة، والتي جرت عليه في الكثير من الأحيان، حيث سيضطر إلى تقديم اعتذار جراء تصريحاته لصحيفة لفي اكونميك في حق مستشار الملك، حيث جاء في الاعتذار ما يلي: إنني لا أملك سوى إلا أن أعتذر لجلالة الملك عن أي إساءة غير مقصودة أكون قد تسببت فيها من خلال لمستشاريك المحترمين وأجدد بهذه المناسبة عبارات الولاء والتقدير.
إن تصريحات بنكيران الإعلامية وكذا خطابته، شكلت إزعاجا بالنسبة للمؤسسة الملكية ولدى مراكز القرار، وساهمت في توتر العلاقات بين هذه الأخيرة، فهو الذي صرح أن الملك محمد السادس هو الذي يحكم المغرب بنص الدستور بينما تتولى الحكومة بعض الصلاحيات غير المطلقة، إنني مجرد عضو في مجلس الوزراء الذي يرأسه الملك، إن في المغرب دولتين، واحدة يرأسها الملك وأخرى مجهولة الرأس والامتدادات، الملك هو الذي يحكم... إلى غير ذلك من التصريحات التي شنجت وشحنت الأجواء.
أما سلوكه كان يوحي بعدم انعتاقه من شرنقة خطاب المعارضة، فهو يقع بين المنزلتين منزلة الحكومة وتدبير الشأن العام ومنزلة المعارضة، ولا يتوانى عن الإفصاح على المتاريس التي توضع أمامه ويبدي خطابا معارضا لها، فهو المسؤول الحكومي وهو المعارض في الآن نفسه. 
عموما لقد تحول بنكيران إلى حالة تواصلية غير مسبوقة، بخطاب قوي مختلف عن المعجم الباهت والخشبي للتواصل السياسي المألوف، وبنبرة خاصة و”شخصية” استطاعت أن تخلق تواطأً حقيقيا مع جمهور المواطنين عبر شبكة من الرموز والاستعارات والتعابير. فقد تمرد بنكيران على الصورة النمطية للنخبة بمعايير “جون واتربوري”، واحتفاظه بنمط حياة شكّل لوحده، كل ذلك الذي أدى خلق  “توترا صامتا” بين بنكيران والدولة، يعود بالتأكيد إلى ما قبل اقتراع 2015، عندما كان أكثر وضوحا .

ثانيا: المد التصاعدي للرصيد الانتخابي لحزب العدالة والتنمية

إن الانسداد الذي عرفه مسار تشكيل الحكومة الثانية ما بعد الدستور الجديد تبدو وكأنها ورطة رئيس الحكومة وحده، الذي لا ننكر أنه يتحمل فيها نصيبا لا يستهان به من المسؤولية، خصوصا طريقة تدبيره المفاوضات. بيد أنه يمكن القول إن الأمر كذلك ولكن فقط بصفة مباشرة، إن لم نقل في جوانبه المرئية. إنها ورطة تنطلق من كونها ورطة كل الفاعلين السياسيين لنستكين إلى أنها فوق كل ذلك متعددة الأبعاد. 
فمن دون شك أن مراهنة الملكية على الأغلبية النسبية، التي تبدو وكأنها استنفدت مهامها، توجد في قلب هذه الأبعاد. فلقد أصبحت وكأنها ستصبح عصية على التطويع في مواجهة نتائج الآلة الانتخابية التي أضحى يمثلها حزب العدالة والتنمية هذا الحزب الذي لم ينهكه امتداد مشاركته في الانتخابات  إلى الحكومة، انطلاقا من رئاستها، أو ردود الفعل إزاء السياسة التي نهجها وهو في الموقع الحكومي، حيث أصبحت «نبوءة» التصويت العقابي في مهب الريح .
إن الاكتساح الانتخابي لحزب العدالة والتنمية المتدرج، شكل تخوفا لمهندسي المشهد السياسي بالمغرب، الذين سارعوا الى تحجيم الامتداد السياسي المتصاعد للحزب من خلال تعرض رئيس الحكومة المعين والأمين العام الممددة ولايته على رأس الحزب، بمجرد مباشرته لتشكيل الحكومة الى نسف حريته في المبادرة السياسية، نتيجة عزله سياسيا بعدما سارع حزب الأصالة والمعاصرة، الحزب الثاني في نتائج الانتخابات التشريعية إلى التموقع في المعارضة. 
 لتتم بعد ذلك محاصرته بتحالف رباعي جمع بين حزب التجمع الوطني للأحرار بزعامة رئيسه الجديد المقرب من القصر، وحزب الحركة الشعبية وحزب الاتحاد الدستوري ثم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. مما فرض عليه الرضوخ لانتظارية تفاوضية خاصة، وشروط أجبرته على فك الارتباط مع أحد حلفائه الوازنين المتمثل في حزب الاستقلال، والقبول بتقلد أحد قيادي حزب الاتحاد الاشتراكي لمنصب رئيس مجلس النواب بدون موافقته في مفارقة ديمقراطية غير مسبوقة، وقد أدى هذا الوضع إلى التقليل من زخم الفوز الانتخابي الذي حصل عليه حزب العدالة والتنمية. 
إن الشرعية الانتخابية، الذي ظل رئيس الحكومة المعين وحزب العدالة والتنمية، متمسكا بها في مسار المفاوضات وإشهارها في الأزمات، جعلت من مهندسي المشهد السياسي العمل على خفض والتقليل من وهجها، من خلال عملية عزله وتمديد أجل تشكيل الحكومة.

ثالثا: التواصل الهش بين الدولة وحزب العدالة والتنمية

إن تطور علاقة "البيجيدي" بالدولة وتراجع مستوى التواصل بين الطرفين جعل هذا الحزب يتجه تدريجيا إلى التصرف بطريقة "مخلّة" بمقتضيات البناء السليم والهادئ للديمقراطية، تصرفا أوحى للجهة الراعية والخصوم بنية هذا الحزب في إملاء تصوره للبناء الديمقراطي على الجميع، وفرض الأمر الواقع، ومن ثم فالكثير من القضايا والإشكالات التي كانت تسوى عبر حوارات مباشرة وصريحة بين الطرفين أمست في ضوء هذا التطور تسوى بتصرفات ووسائل أقل ما يقال عنها إنها "خشنة" وغير "حوارية. 
لقد ظن بنكيران أن المغرب فعلا وضع خطواته الأولى في مسلسل الانتقال الديمقراطي، وأن أول خطوة هي استقلالية القرار الحزبي، فأنطلق كتسونامي يجوب المغرب، يؤطر الشعب بهذه الفكرة  في أفق مستقبلي بعيد، ليعش المغرب ديمقراطية حقيقية، لكن الذي نسيه بنكيران أن حزبه جاء إلى الحكومة في حالة استثنائية غير طبيعية، وبالتالي فإن مشروع مواجهة التحكم والدفاع عن استقلالية القرار الحزبي، من موقع التدبير الحكومي سيكون ثمنه غاليا. 

المحور الثاني: ما بعد مرحلة عبد الإله بنكيران

إن محاولة استجلاء مرحلة ما بعد سحب التكليف الملكي من عبد الإله بنكيران وتعيين السيد سعد الدين العثماني، تقتضي الحديث بنوع من الحذر الشديد حول مآل الأمور، وكذا رهانات السلطة، ففي هذه المحطة والمرحلة تمتزج فيها رهانات السلطة برهانات الفاعلين السياسيين وخاصة حزب العدالة والتنمية المعني بالدرجة الأولى خصوصا وهو يدخل مؤتمره لانتخاب أمين عام جديد، إضافة إلى المتغيرات على مستوى الحقل السياسي المغربي ما بعد استحقاقات السابع من أكتوبر.
إن الأحداث المتلاحقة منذ الخمسة الأشهر الأخيرة، وبروز مجموعة من المؤشرات في المشهد السياسي تدفعنا إلي إبداء مجموعة من التوقعات على مستوى الحقل السياسي المغربي:

أولا:إعادة ضبط المجال الحزبي والانتخابي

تعتبر الأستاذة رقية المصدق، أن الاكتساح الانتخابي للحزب العدالة والتنمية، وانتهاء المراهنة على الأغلبية النسبية، سيجعل إعادة ترتيب العلاقة بين المؤسسة الملكية بالمجال الحزبي قائما في هذه المرحلة، لقدإنتهى شوط عرف في بدايات الألفية الثالثة انتصار مراهنة الملكية على الأغلبية النسبية -التي تعني في آن واحد الأغلبية النسبية لكل حزب على حدة ولكل مكوناتها- في مواجهة مراهنة أحزاب الحركة الوطنية على الأغلبية المطلقة؛ هذه الأحزاب التي كانت ترى في نفسها القوة القادرة على التناوب لو كانت الانتخابات نزيهة.  بالإضافة إلى تكتيكات النظام المتمثلة في خلق أحزاب إدارية تتجلى مهمتها في كبح جماح الأحزاب الوطنية ووقف امتداداتها.
نحن في وضعية خاصة جدا، فلأول مرة نجد أنفسنا أمام رئيس حكومة، يوجد أصلا في موقع المسؤولية منذ يناير 2012، ويفرض نفسه من جديد بفضل تصويت المواطنين فحزب العدالة والتنمية هزّ بقوة طبيعة وأبعاد النظام الحزبي القائم في المغرب، والذي اتسم على مدى عقود بثنائية قطبية بين الأحزاب المنحدرة من الحركة الوطنية وتلك التي تنعت بالأحزاب الإدارية. حزب العدالة والتنمية يطرح خصوصية أخرى، وهي مرجعيته الإسلامية، أي أنه يتموقع في الحقل الديني على خلاف كل الأحزابالأخرى. تموقعه هذا يجعله في مجال يشغله الملك أمير المؤمنين صاحب الاختصاص الأسمى لضمان الممارسة الحرة للعبادات. الحقل الانتخابي من جانبه شهد ظهور حزب العدالة والتنمية كمتصدر خلال فترة ست سنوات، متجاوزا كل الأحزابالأخرى .
إنالنجاحات الثلاثة الإنتخابية المتتالية لحزب العدالة والتنمية، لم ينتصر خلالها على مجرد الخصوم، بل انتصر فيها على قواعد وثوابت هندسة سياسية لنظام انتخابي، وُضِع لكي يعمق من هشاشة المؤسسات المنتخبة ولكي لا يفرز أي قوة انتخابية من شأنها الحد من هامش حركة النظام السياسي . فحصول الحزب على 125 مقعدا سابقة في التاريخ المغربي وفي المسار السياسي بالرغم من تخفيض العتبة من 6 بالمائة الى 3 بالمائة، وتنبؤ الكثير من الباحثين في المجال بأن تخفيض العتبة من شأنه بلقنة المشهد السياسي وتحجيم دور العدالة والتنمية، لكن الواقع برهن على تهلهل هذه الأطروحة، وبرهن على محدودية النظام الانتخابي القائم على الأغلبية النسبية في ظل واقعنا السياسي الراهن. 
لذلك يعتقد أن يكون هناك تفكير عميق لإعادة ضبط المشهد الحزبي والانتخابي وقراءته في ضوء المتغيرات، وفي ضوء تأكيد حزب العدالة والتنمية على الهشاشة التي أصابت بعض الثوابت في الحقل السياسي.

ثانيا: الدفع بقوة حزبية لمجابهة الامتداد الحزبي للعدالة والتنمية

 العقيدة التاريخية للدولة المغربية منذ الاستقلال هي تعويم المشهد السياسي بأحزاب سياسية، كانت تنعت بالأحزاب الإدارية، أحزاب وظيفية مهمتها الحد من مد الأحزاب الوطنية، والتي تحدث عنها صاحب مؤلف أمير المؤمنين والملكية والنخبة السياسية المغربية جون واتربوربوي بتفصيل وإطناب، كحزب الحركة الشعبية التي وظف من أجل وقف امتداد حزب الاستقلال في البوادي والمداشر، وكذا حزب التجمع الوطني للأحرار وحزب الاتحاد الدستور.
فبعد فشل حزب الأصالة والمعاصرة في مواجهة حزب العدالة والتنمية، من خلال الارتكاز على الجانب الإيديولوجي، وتبنيه للحداثة من أجل مواجهة إسلاميي العدالة والتنمية، لكن تبني حزب المصباح لما يسمى بمواجهة التحكم الذي ألصق بحزب الأصالة والمعاصرة، وبات بنكيران يردد هذه العبارة في جميع مهرجاناته الخطابية وفي خطابه السياسي، أفقد المصداقية في حزب الأصالة والمعاصرة، إضافة إلى ترسيخ فكرة مفادها أنه صنيع الدولة لمواجهة الاسلاميين، والتي كانت بمثابة إنهاكا لهذا الحزب.
لهذا فالخمسة أشهر التي مضت كانت تخفي ورائها، محاولة لخلق قوة حزبية، تمثلت في حزب التجمعالوطني للأحرار بزعامة عزيز أخنوش لما يحظى به من رضا داخل القصر وبين رجال الأعمال، لقد بدا الرهان على بروفايل مخالف تماما للشخصيات التي تغرق في الشعبوية، قادر على تجميع شتى الأطياف والأعيان، التي لها القدرة على كسب الرهان الانتخابي، وهو الذي بدا يلوح في الأفق بعد التحاق مجموعة من الشخصيات والأعيان الى حزب التجمع الوطني للأحرار.وخلق هذه القوة حزبية، أظهر وقف الرهان على الجانب الإيديولوجي الذي دل وبرهن على فشله.

خاتمة

إن الانتخابات التشريعية الثانية في ظل دستور الملك محمد السادس، قد أظهرت ضعف المنظومة الانتخابية ورهانات السلطة عليها، خاصة في ظل ارتفاع المنسوب الانتخابي المتواتر لحزب العدالة والتنمية، بالرغم من تدبيره للشأن العام وقيادته للحكومة، وتكسير الرتابة الذي وسمت المشهد السياسي، فالظاهرة البنكيرانية والتواصل المنقطع النظير لرئيس الحكومة والأمين العام لحزب المصباح، أحيا النقاش السياسي وأدخله لبيوت العامة، وأصبح عامة المواطنين على دراية تامة بما يعتمل في المشهد السياسي المغربي.
التمسك بالشرعية الانتخابية وبالمنجز الانتخابي، سيدفع السلطة إلى العمل على الحد منه، والرهان على عامل الوقت لاستنزاف هذه الطاقة الانتخابية والتخفيف من شأنها، فخمسة أشهر من تعثر تشكيل الحكومة، أعطى إشارة أن المنجز الانتخابي غير كافي لممارسة السلطة ورئاسة الحكومة، بل يجب الانضباط إلى القواعد الموضوعة سلفا والتقيد بها، فتعنت رئيس الحكومة المعين ووضع خطوط حمراء في مجال المفاوضات والقسم بأغلظ الأيمان على عدم دخول حزب الاتحاد الاشتراكي والتلويح بما سمي ببيان إنتهى الكلام، وخوض الصراع على أساس أطروحة مواجهة التحكم، كانت مسوغا في الوقوف حجر عثرة في تشكيل الحكومة... لكن في خضم هذه الأحداث سيظل السؤال المطروح هو مستقبل الانتقال الديمقراطي بالمغرب؟    









ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق