تأليف: لاري دايموند
ترجمة: عبد النور خراقي
إعداد: خالد شيات*
روح الديمقراطية كتاب ألفه لاري دايموند أحد أهم المؤلفين في مجال علم السياسة المعاصرين ومديرمركز الديمقراطية وسيادة القانون في جامعة ستانفورد الأمريكية، وواحد من أهم المستشارين لسلطة الائتلاف المؤقتة (الاحتلال) الأمريكية للعراق بقيادة بول بريمر، والتي تعد منعطفا في تحليلات دايموند المرتبطة بالديمقراطية التي تعتبر بحق هوسه الفكري الذي بنى عليه مجمل أطروحاته، وهكذا أصبحت أفكاره تدور حول قناعاته المتجددة المرتبطة بانبثاق الديمقراطية من الداخل واستحالة فرضها من الخارج، تماشيا مع المقولة التي يفتتح بها كتابه المنقولة عن غاندي الذي يهديه مؤلفه إلى جانب مناضلين آخرين عن الديمقراطية وقيمها.
لقد آمن دايموند بضرورة أن يكون الشعب مصدرا للديمقراطية، وتجاوز العوامل الاقتصادية كمدخل وحيد في التحليل الليبرالي الجديد لإقرار الديمقراطية كنظام موازي، وقد ظهر ذلك في العديد من الكتب السابقة ولاسيما كتابه “مصادر الديمقراطية”، حيث العامل الثقافي أو الفكري عامل محدد لتكريس قيم الديمقراطية.
لقد اعتمد دايموند منذ كتاباته الأولى منهجا يقوم على الدراسات “الكمية” للديمقراطية، فهي تتحدد بمقاييس معينة ومنضبطة يمكن أن تراعي التفاوت الثقافي الممتد بين الدول، كفضاء للدراسة، لكنها تتحدد في قالب واحد يجمع المشترك الإنساني حسب تصور دايموند للديمقراطية.
ويستمر في كتاب “روح الديمقراطية” في نسق مماثل حيث يتراوح الكتاب بين الدراسة الكمية والتحقيب في مجال محدد هو الدولة الوطنية بالصيغة التي تحلل المنتظم السياسي باعتبار المعايير التي يضعها دايموند للديمقراطية باعتبارها مفهوما يحقق الحرية والعدالة.
الديمقراطية تعاني بسبب نقائص النخب وخياناتها أكثر مما يتعلق الأمر “بلامبالاة الشعب أو آرائه الاستبدادية”
1- مستوى يرتبط بالتحقيب
ينضبط تحليل دايموند في إطار التحقيب لميزانين اثنين؛ الازدهار والانتكاسة من جهة وموجاتهما من جانب آخر، أي أن دايموند يعتبر أن الديمقراطية، باعتبارها نسقا داخليا، لا يمكن أن تستقر على نفس عامل التوازي مع القيم المثالية لها إلا داخل الدولة، ولا تختلف في ذلك الأنساق أو الأنظمة أو المنتظمات السياسية بين الدول الأكثر ديمقراطية والدول الأخرى الأقل أو الأكثر ابتعادا عن القيم الموضوعة سلفا.
لذلك ليست الولايات المتحدة الأمريكية نموذجا جيدا للتماهي مع قيم الديمقراطية، لقد بدأ الكتاب “بعتاب” شديد للدور الذي لعبته الولايات المتحدة الأمريكية خلال الحرب الباردة، وكيف أنها “باسم محاربة الشيوعية والدفاع غن الحرية” كانت “تخون قيمها الديمقراطية”، وكانت “تساند طغمة من العسكريين المنتمين إلى الجناح اليميني والديكتايوريات الملكية التي كانت تقف إلى جانبنا”. وقد كان هذا الجانب الذي يحلله دايموند هو من اعتدى على قيم الديمقراطية باسم استقرار الأوضاع لصالح القوى الليبرالية ضدا على توجهات الدول الشيوعية التي كانت تهدد قيم الليبرالية واستمرارها، وهو أمر يراه دايموند تافها، لأن الديمقراطية لا يمكن أن تفرض بأي شكل، وهي عملية ثقافية بالأساس ومرتبطة بالفكر لذلك يظهر اللوم الذي وجهه دايموند للولايات المتحدة مبَررا لأنه جعل من أنساق ثقافية أخرى تعتبر الديمقراطية صناعة ليبرالية.
ولذلك خصص فصلا أولا يدور حول “القيم الكونية” في القسم الأول من كتابه، الذي بدأه بالتضارب بين اتجاهين؛ الأول يرى أن الحرية قيمة كونية، والثاني يرى أن اعتبار الناس سواسية لا يعني بالضرورة تشبعهم بشكل متساو بقيم الحكومة وتطلعاتها، أي أن الديمقراطية والحرية رافدها الأساسي ليس قيمتين كونيتين. لذلك كان لزاما أولا أن يحدد مفهوم القيم الديمقراطية، لكن لا جواب لدايموند كما هو حال العديد من المفكرين، فلا الحرية لها طابع خاص والديمقراطية يمكن أن تتحدد في ممارسات معينة مرتبطة بالحريات بكل تنوعها سواء كانت جماعية أم فردية، حيث “إن تحديد مفهوم الديمقراطية شبيه إلى حد ما بتأويل التلمود”، وبين تصورات الاقتصاديين والسياسيين يتراوح سُمْك وضحالة الديمقراطية حسب دايموند فلا هي تتحدد في كل الحريات ولا هي تتموقع في الديمقراطيات الانتخابية، لكن المعايير العشرة التي وضعها دايموند هي التي تحدد النظام الديمقراطي، لكن لا يكفي ذلك أيضا إن العملية لا ترتبط فقط بشكل معين أو معايير متوافق عليها أو مقترحة؛ فلا بد أن “تتحقق هذه الأبعاد بحجم كبير”، وإلا اعتبرت الديمقراطية غير ليبرالية، وحتى إن وجدت كقالب شكلي فإن دايموند يستعير مصطلحات “الديمقراطيات الواقعية” أو “النظام الشمولي الانتخابي” فتكون بذلك مجموعة من الأنظمة في العالم “مجرد ديمقراطيات زائفة، لأن حقائق وقواعد اللعبة السياسية لا تسمح، إلا عبر وسائل شاذة، باستبعاد الحزب الحاكم، الائتلاف أو العصابة من السلطة”، فالانتخابات تحتاج إلى نزاهة لأنها تعبير عن عملية تقنية مرتبطة بالديمقراطية.
ويمضي دايموند في التساؤل حول من يربط الديمقراطية بالترف الاقتصادي أو المادي، لقد انتشرت بشكل كبير أفكار تربط بين الديمقراطية والترف الاقتصادي ، والعلاقة اللافتة بين مستوى التنمية وإمكانية دعم الديمقراطية، وكادت أن تصبح قاعدة كون “كلما تقدم بلد ما خطوة إلى الأمام على مستوى التطور الاقتصادي ارتفعت نسبة العمر المتوقع لنظام ديمقراطي ما”، لكن دايموند الذي لا يرى الديمقراطية عملية خارجية بل بناء ثقافيا داخليا، استنتج ببداهة أن هناك أنظمة تنتمي لدول ذات دخل منخفض عمرت فيها الديمقراطية مثل بنين ومالي وملاوي وبتسوانا بنسب متفاوتة، وفي الهند وناميبيان، هناك دول صنفها برنامج الأمم المتحدة في أسفل الترتيب ولها “تنمية بشرية منخفضة” اعتنقت الديمقراطية. لكن في كل الأحوال “حيثما فقدت الديمقراطية قيمتها الحقيقية من لدن الشعب لن يكتب لها الظهور، وإن ظهرت سرعان ما تزول”، ففي بعض الدول الديمقراطية تعاني لسبب رئيسي حسب دايموند يتعلق بنقائص النخب وخياناتها أكثر مما يتعلق الأمر “بلامبالاة الشعب أو آرائه الاستبدادية”.
الديمقراطية ليست “بذخا” وليست مفهوما غربيا
الديمقراطية ليست “بذخا” وليست “ترفا”، وهناك حجج قوية على ذلك يتعلق دائما بالدراسات العملية التي يعطيها دايموند كأمثلة راسخة. وهي ليست أيضا مفهوم غربي بل هي “روح الشعب” لأن البيانات التي تم استقساؤها تدل على وجهة نظر الناس في الديمقراطية التي يمكن أن تعاني من المشاكل لكنها أفضل من أي شيء آخر من أشكال الحكومة.
في دائرة التحقيب يتحدث الكاتب عن “الازدهار الديمقراطي” الذي يبدأ حسبه بإزاحة النظام الديكتاتوري القومي للدولة البرتغالية في أبريل 1974، وهو يعتبر ذلك موجة ثالثة للديمقراطية، أما الموجة الأولى فهي التي تبدأ سنة 1828 والمرتبطة بانتشار الانتخاب الديمقراطي في الولايات المتحدة الأمريكية، والردة قادت موسوليني إلى سدة الحكم في إيطاليا، والموجة الديمقراطية الثانية قصيرة تتزامن مع انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، واندماج بعض المستعمرات السابقة في ذلك خاصة تلك التي انسلخت عن الاستعمار البريطاني.
ومع ثورة القرنفل البرتغالية لم تكن هناك سوى حوالي 40 دولة ديمقراطية، وبعدها لم يكن هناك سوى “اتجاه متواضع وتدريجي فقط لا يؤشر على تغيير شامل مرتقب”، ولعل ذلك يفسر بما بدأه الكاتب، أي مرحلة الحرب الباردة واعتبار الديمقراطية مطلبا ثانويا. لكن إسبانيا بدورها سرعان ما لبثت أن التحقت بالركب وقد كان لذلك في الساحة السياسية في أمريكا اللاتينية التي “كانت تعيش تحت ضغط الحركات الشعبية الملحة بشكل متزايد والولايات المتحدة الأمريكية، حيث تأكيد سياسة خارجية جديدة تهم حقوق الإنسان نادى بها جيمي كارتر”. ومن المحطات أيضا يذكر الكاتب “المعجزة” التي حدثت في الفلبين سنة 1986 حيث تمت “تعبئة المجتمع بتكتيكات الكفاح السلمي من أجل خلق شرخ في النظام، ومن ثم الإطاحة بالديكتاتور”، و”امتدت روح الديمقراطية إلى شرق آسيا وجاء الدور على كوريا الجنوبية سنة 1987 ومنها إلى تايلاند والصين وأحداث ساحة تيان آن مين في أبريل 1989، وهو ما جعل النظام الصيني “لا يرى مانعا من إحداث إصلاحات مهمة، لكن المتشددين سحقوا المظاهرات سحقا في هجوم عسكري مميت. وتراجعت بعد ذلك أنظمة كثيرة عن النهج الديكتاتوري في أمريكا اللاتينية خاصة في الشيلي وفي الباكستان”.
يعقب دايموند على ما يسميه “الانفجار الثاني للموجة الثالثة”، أو “عندما اتحدت الأحزاب المنقسمة على نحو موجع في النيبال ضمن الحركة الجديدة من أجل إعادة الديمقراطية في فبراير 1990”. فقد “كانت التغيرات التي شكلها سقوط الشيوعية في أوربا الشرقية عميقا جدا إلى درجة أن بعض الدارسين دعوا المرحلة الموالية من الديمقراطية بالموجة الرابعة”، لقد اعتبر أن العالم عرف مسارا متجددا للديمقراطية من خلال النسق الذي خلقه انهيار المعسكر الشرقي، وبذلك “انتشر التوجه الديمقراطي العام انطلاقا من أوربا الغربية إلى أمريكا اللاتينية، ومن ثم إلى آسيا، لكنه لم يشمل مناطق أخرى”. فرغم أن إفريقيا كانت مجالا جديدا للمسعى الديمقراطي حيث اكتسحتها “موجة أنظمة منفتحة ومطالب واسعة تنادي بالديمقراطية تعتمد التعددية الحزبية “، وأجبر الدكتاتوريون من أمثال فيليكس هوبييت بوانيي وعمر بونغو وكينيث كوندا على القبول بتنظيم انتخابات تعددية تنافسية، وصوتت دول جزر الرأس الأخضر وساو تومي وبرانسبي ضد أنظمة الحزب الواحد، وجلب عبدو ضيوف المعارضة للمشاركة الحكومية. لكن في كل هذه الحالات كان الأمر لا يشمل كل الفضاءات التي يمكن أن تصاب بعدوى الديمقراطية.
يذكر دايموند في كل هذه الأمثلة الروح التي ساقت العالم من جديد حيث “لحظات التحول الديمقراطي الأخيرة في عالم ما بعد الشيوعية يتمثل في تكريس الشجاعة والإبداع والتزام الحركات الشعبية ليعبئ منهج سلطة اللاعنف الغاندية خلال الموجة الثالثة”. والتي حدثت حسب رؤيته إضافة لتوافقها مع ما يدفع الشعوب إلى التغيير إما بناء على ما سبق للتاريخ أن حدده كما هو الحال في الهزيمة في الحرب أو وفاة الديكتاتور أو اغتيال أحد زعماء المعارضة، أو لمجرد أحداث عاطفية كما هو الحال في زيارة البابا جون بول الثاني لبلدته الأصلية ببولندا سنة 1989، لكنه يرى أن أحداث الماضي لم تكن سوى محفزات لما سيحدث لاحقا لكن ذلك مرتبط أيضا بميزات خاصة هي “أولا ميزة عامة لعمليات التحولات الديمقراطية” يربطها الكاتب بالعولمة التي “لم تتجل في حجم التحول بل أيضا في سرعة التفاعلات بين السياسيين الديمقراطيين والحركات المدنية من مختلف بقاع العالم”، والسمة الثانية هي الطابع التفاوضي للتحولات، والسمة الثالثة هي الدور الذي لعبه المجتمع المدني في تجنيد وتوجيه الضغط الشعبي لتحقيق التحول الديمقراطي”، أما السمة الرابعة فتتمثل في “الوسيلة الناقلة لهذا التحول الديمقراطي في العملية الانتخابية”.
في منحى مواز بعملية التحقيب التي هي سمة خاصة بمؤلف دايموند يقارب مفهوم “التراجع الديمقراطي”، وكعادته يربها بحدث مميز وفي هذه الحالة ليس سوى إطاحة الجيش الباكستاني “بالدمقراطية الدستورية للدولة بعد عقد من الفساد السياسي الدفين”.
لكن إن كان التحقيب عملية تقليدية في التحليل السياسي عموما فدايموند أضاف مستجدا منهجيا يرتبط بالعوامل التي تحرك الديمقراطية.
وقد قسمها إلى عوامل داخلية محركة، وعوامل خارجية والتأثير الإقليمي، داخليا تتراوح بين الانقسامات الشمولية والتمنية الشمولية والقيم الحرة وقيام المجتمع المدني، والانقسامات الشمولية هي الانكسارات التي لحقت الأنظمة الشمولية وخاصة بين المتشددين والمعتدلين، ويضاف لذلك “النجاح الشمولي في تحقيق تنمية اقتصادية ويعطي الكاتب نماذج عن ذلك كما هو الحال في كوريا الجنوبية وتايوان والبرازيل وتشيلي وإسبانيا، وأحيانا يتمكن “الحكم الشمولي من رفع مستويات الدخل الفردي والتعليم والولوج إلى المعلومات، وبلورة الوعي بما يجري في العالم بطرق تمكن من تحقيق الديمقراطية بشكل سريع”. والقيم الحرة هي التي تجعل من تركيز السلطة في يد شخص واحد أو حزب واحد أو نخبة محدودة أمرا غير ممكن. وقيم المجتمع المدني هي التي تحول القيم السياسية إلى اتجاه ديمقراطي.
ولا يكفي ذلك طبعا، حسب تصور الكاتب، فهناك عوامل خارجية محركة للديمقراطية تتراوح هي الأخرى بين مفهوم الانتشار وتأثير التظاهر حيث يمكن للديمقراطية، “أن تعبر مسافات شاسعة ثقافيا وجغرافيا” والضغط السلمي الذي أصبح من قيم التحليل السياسي للكاتب، ويعتبر أن الولايات المتحدة الأمريكية استعملت أسلوب الضغط السلمي على الدول الشمولية للدفع بحقوق الإنسان والديمقراطية إلى الأمام، وذلك منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي. وأخيرا يقارب مسألة محدودية العقوبات وشروط المساعدات، وهو يعتبر أن منطق ربط المساعدات الاقتصادية بالديمقراطية هو حديث العهد نسبيا، وكانت عادة مرتبطة بوعود إصلاحات مستقبلية بدلا من تقديمها كمكافآت لسلوك سابق. أما مساعدة الديمقراطية فيعتبرها مسألة ضيقة جدا حيث اقتصرت على حالات معزولة بعد الموجة الثالثة للديمقراطية.
2- معايير الديمقراطية
يراوح الكاتب مفهوم الحرية المولودة من رحم الثورتين الأمريكية والفرنسية ، والتي هي مرادف لمفهوم الديمقراطية نفسها، بين اتجاهين متصادمين هما: الاتجاه الذي يعتبر الحرية مفهوما كونيا، وبين من يرى “عدم تشبع الناس على نحو متساو بقيم الحكومة وتطلعاتها، حتى وإن خلقوا، بمعنى أو بآخر، سواسية، ليست الحرية ولا الديمقراطية قيمتين كونيتين، بل هما تصوران غربيان، فالثقافة تحد من مدى قدرتهما على الامتداد”.
تبقى الثقافة مفهوما شاملا في تحليل الديمقراطية لدى دايموند بل هي من روح الديمقراطية بحيث لا يمكن فرضها، أو يمكن ذلك بشروط خاصة حسب تصوره لأنها “قيمة كونية”، فحسبه “لا يمكنك أن تفرض على شعوب أخرى قيما لا يألفونها ولا تمت بصلة إلى ماضيهم”، وأقصى ما يمكن فعله حسبه هو أن “تشمل المفكرة حقوق الإنسان”، غير أنه لا يرى “أن تفرض عليهم طريقة إدارة حكمهم”.
من ذلك ينتقل إلى الحديث عن منظومات جزئية، حسب البعض مثلا “لا يوجد في تقاليد العالم العربي السياسية، تقاليد الإسلام السياسية، التي تجعل من الأفكار المنتظمة للحكومة الدستورية النموذجية أمرا مألوفا أو واضحا”. لذلك انتقل ربما في فصل خاص ليعيد التساؤل النظري حول ما إذا كانت الديمقراطية مفهوما غربيا، “بما أنها بالنسبة للمشككين الثقافيين نتاج فكري وسياسي منبثق من الغرب ومن التقليد الأوربي التنويري، وبما أن تفكير الديمقراطية الحديثة وممارستها لا يمكن اقتفاء أثرها في أي مصدر من مصادر العالم غير الغربي، فلا بد أن ننتهي إلى نتيجة مفادها أن الديمقراطية خاصة بالغرب من حيث الثقافة وليست عامة”. يعود ويذكر الكاتب بأن الديمقراطية “روح الشعب” ويتساءل في كنف هذا النقاش المتضارب “هل الإسلام هو المشكلة؟”، يأتي هذا التساؤل في نسق غير متسق لكنه يقحمه في مسار التحليل، فقد تم استغلال مقولة صدام الحضارات بشكل كبير، لكن بالرجوع إلى الدراسات الكمية يعتبر الكاتب أن النتيجة هي نفسها: “المسلمون يؤيدون الديمقراطية مثلهم مثل غير المسلمين”، هناك من سبق إلى الاستنتاج أن نسبة الورع الشخصي لا تتماشى بشكل حاسم مع تأييد الديمقراطية، وهناك خلاصات تعتبر ألا تعارض بين الإسلام والديمقراطية، المشكل ربما هو تصادم أفكار التنوير الإسلامي مع “نهوض عدد من المفكرين المسلمين” الذين “كانوا يبحثون عن إنتاج براهين دينية ضد الديمقراطية، ومؤيدة لنماذج إسلامية حقيقية”.
ولا يقتصر الأمر على صناعة التعارض بين القيم الدينية، فالكاتب يعطي نموذجا مختلفا هو “أطروحة القيم الأسيوية”، وهي الفكرة “التي يحملها الأوتوقراطيون الآسيويون،وتحديدا الشرق آسيويين، يظهرون أكبر قدر من القيم السياسية غير الليبرالية والاستبدادية والمجتمعية مقارنة بالآخرين”. ويعطي الكاتب تصوره المنحصر في أنه “إذا كان للنقاشات الحادة حول قيم شرق آسيا أي صلاحية، فإن على شعب شرق آسيا أن يدعم الديمقراطية ذات الطابع الليبرالي بشكل متميز”.
من ذلك يخلص الكاتب إلى خلاصتين عامتين، في ترابط مع قراءاته العملية؛ من جهة قراءة فرص نجاح ديمقراطية عالمية بمتابعة الآمال التي يمكن أن تحققها الآمال الديمقراطية في أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية، باعتبار الإرث الغربي للثقافة، وهي نماذج لا تخلو من نقائص لاسيما النموذج الأمريكي “الذي تهدده العصابات الشابة التي تنشأ في أحياء الأقليات”، وتعرف التجربة الأمريكية الجنوبية مسارا مشابها، حيث تستمر في “الانحطاط والتشوه بواسطة سيادة قانون ضعيف”. فالأمر يحتاج إلى عمليات تأمين لها خصائص متميزة. فالديمقراطيات ليبرالية لكن مضطربة لعدة عوامل، وتعرف “حالة لهو”؛ “ففي واقع الأمر تتهكم كل شعوب ما بعد الشيوعية على أنظمتها، وهم غير راضين بتاتا، ومن بين أعضاء ما بعد الشيوعية العشرة الجدد في الاتحاد الأوربي فإن 72 بالمائة يعتقدون أن أكثر من النصف أو الجميع تقريبا أن موظفي الدولة فاسدون”. والاستثناء الأسيوي الحقيقي المتمثل في سنغافورة أخذ في التآكل، فقد كانت استراتيجية حزب الشعب الحاكم تعمل لتوفير الرفاهية لجميع المواطنين، ولما وظف النظام مواهب ذات كفاءة عالية وكافأهم بسخاء بدا الاقتصاد أقل عدلا، مقوضا بذلك روح الشعب المجتمعي”، تكاد تكون النتيجة هي نفسها؛ “بدت الآفاق الديمقراطية تتراجع في آسيا بعد مرحلة طويلة من الأمل والتقدم”، إذ استقرت الديمقراطية وتأسست في اليابان والهند لكنها عرفت تراجعا في مناطق يمكن أن تعد من أكثر المناطق تحررا مثل تايوان وكوريا والفلبين، الأمر يعتبر إشكالا متجددا مرتبط بالثقافة في تصور الكاتب. الديمقراطيات “تحت الضغط” و”الديمقراطيات غير الليبرالية في أزمة، وهناك مظاهر متعددة لزيف الرأسمالية، وهو ما يؤدي إلى ما يسميه “الانتقال الشمولي”.
وهل يمكن دمقرطة الشرق الأوسط؟
هناك أمل في مناطق من العالم، ومن الأسئلة التي يجيب عليها الكتاب الإمكانيات المفتوحة أمام القارة الإفريقية لاعتبار أنها يمكن أن تتجاوز الحكم الفردي، بتجاوز ما يسميه “الفخ التنموي”، ويبقى بذلك السؤال المفتوح “هل يمكن دمقرطة إفريقيا وهل يمكن دمقرطة الشرق الأوسط؟
الخلاصة الثانية فهي الطريق الصعب نحو الديمقراطية، وضرورة العمل على تفعيل الديمقراطية والوقوف على أسباب ضعف أداء بعض الديمقراطيات،وتجاوز “الدولة المفترسة”، بالقضاء على “الشطط في استعمال السلطة، والانفتاح السياسي واقتصاد السوق”، كما يجب إيجاد “ابتكارات عديدة للسير بمجتمع ما من دولة قاسية ومنغلقة إلى دولة منفتحة وديمقراطية”، ويلزم لذلك أولا بناء العلاقات الأفقية للثقة”، و”بناء مؤسسات فعالة للحكومة لتقييد تصرفات الحكام” ثانيا، كما تحتاج إلى المزيد من المؤسسات الديمقراطية الأكثر جدة وقوة التي تربط المواطنين ليس فقط بعضهم ببعض ولكن أيضا بالعملية السياسية. ثم لا بد من المحاسبة الأفقية، لأن الديمقراطيات الزائفة يمكنها أن ترجع إلى مؤسسات المحاسبة الأفقية، لكنها في معظم الأحيان مؤسسات منتشرة على الورق. ولا يكفي ذلك بل يجب “تفعيل المحاسبة” و”تجنيد المجتمع المدني”، هي عملية متضامنة من الناحية المفاهيمية والمؤسساتية حسب رأي الكاتب. ولعل ذلك سيرتقي بالديمقراطية بشكل فعال، لأنه “فوق نظامها المجرد فإن أكثر ما يميز الموجة الثالثة من الديمقراطية كان ظهور سلسلة واسعة من المحاولات والمبادرات الدولية للارتقاء بالديمقراطية”. إن ذلك ينتج “المساءلة السياسية” باعتبار أن هناك “بعض المبادئ الأساسية لترشيد المساعدة الديمقراطية”، فمن جهة “ثمة حاجة إلى الملكية المحلية وليست الحكومة،وثانيا إن المساعدة الناجعة لمؤسسات الدولة تعتمد على الإرادة السياسية لاستعمالها من أجل الديمقراطية”، وثالثا تنمية الآمال الواقعية لما قد تحققه مجهودات المساعدات الديمقراطية خاصة على المدى القصير”. ولا بد أيضا مما يسميه الكاتب المساعدة التنموية المشروطة، وهو شيء سبق أن تناوله الكاتب في مواضيع متفرقة، ويعتمد ذلك على دور أمريكا المحوري وسياستها الخارجية من أجل تحقيق الديمقراطية، وأيضا السياق الإقليمي والدولي، وبعض التحديات الخاصة كما هو الحال بالنسبة للشرق الأوسط، بموازاة مع “تكنولوجيا التحرر”.
وعموما يعرج الكاتب على محددات أخرى بمعطيات أخرى سواء اقتصادية أو سياسية، وما يربطها مثل ما يربط كل العمل المقدم من طرف الكاتب، هو جمالية خاصة ودقة في التحليل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق