حركة 20 فبراير في المغرب: دراسة في سياقات التحرك وبنية الحركة (01) - مدونة تحليل السياسات

اَخر المشاركات

منصة إلكترونية تعنى بقضايا المعرفة السياسية

الاثنين، 8 أكتوبر 2018

حركة 20 فبراير في المغرب: دراسة في سياقات التحرك وبنية الحركة (01)

د.توفيق عبد الصادق


تأتي أهمية الدراسة نظراً لملحاحية التساؤلات البحثية التي لازالت تطرحها ظاهرة الحركات الاحتجاجية والاجتماعية بشكل عام على الدارسين والمتخصصين الاكاديميين، وتكمن راهينيتها وطابعها الخاص بالمغرب، قياساً لما شكلته حركة 20 فبراير من علامة فارقة في مسار تطور الحركة الاحتجاجية بالمغرب، بالرغم من مرور أزيد من سبعة سنوات على انطلاقتها، خاصة أمام توالي احتجاجات شعبية بعدة مدن ومناطق في الفترة الاخيرة وكذا ظهور أشكال وتعبيرات احتجاجية جديدة، تحمل في ثناياها ذات الشعارات ونفس المطالب.    
نتائج الدراسة ترى بأن مخرجات النظام السياسي في المغرب، والذي استطاع التعامل مع الحركة وفي تدبير مرحلة الربيع العربي بأقل الخسائر، وهو ما شكل نجاحاً محسوباً مقارنة بباقي تجارب البلدان الاخرى، غير أنه يبقى نجاحاً نسبياً، سرعان ما سوف يتبدد امام ظهور مزيد من الحركات الاحتجاجية، ذات المطالب المتعلقة بالتنمية والعدالة الاجتماعية والمناطقية، أو تلك الساعية الى تحقيق مطلب الاصلاح السياسي والبناء الديمقراطي. ما دامت نفس الشروط الموضوعية المرتبطة بالمحددات الاقتصادية والاجتماعية للظاهرة متوفرة، وما دامت قضايا الاصلاح السياسي وتحقيق التحول الديمقراطي تجري بعيداً عن قناعات واهتمامات الماسكين بالسلطة.
الكلمات المفتاحية: الحركات الاحتجاجية والاجتماعية، التحول الديمقراطي، المغرب

*الدراسة في جزء كبير منها مقتطفة من اطروحة للدكتوراه، بعنوان "الحركات الاحتجاجية في ظل الربيع العربي وفرص الانتقال الديمقراطي: المغرب وتونس نموذجاً " نوقشت يوم 23 نونبر 2017، بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية-سلا، جامعة محمد الخامس بالرباط، المغرب
* الدراسة نشرت بمجلة المستقبل العربي، العدد 474/غشت 2018. 

مقدمة
تأتي الدراسة بعد مرور أزيد من سبعة سنوات على انطلاق حركة 20 فبراير، وهي تهدف بالدرجة الاولى للسعي نحو فتح باب النقاش والبحث حول وضع الحركات الاجتماعية والاحتجاجية في نسق البحث السياسي والاجتماعي، خاصة بعد ظهور مزيد من الحركات الاحتجاجية المماثلة، على مستوى اهتماماتها واشكالها التعبيرية، كان أبرزها، الاحتجاجات القوية التي شهدتها مدينة الحسيمة ونواحيها بشمال المغرب لشهور عديدة منذ أكتوبر من سنة 2016، والمعروفة بأحداث الريف، على خلفية مقتل شاب داخل شاحنة لنقل النفايات وهو يحاول استرجاع بضاعته المصادرة بشكل تعسفي من قبل السلطات.  إضافة لما عرفته مؤخراً مدينة جرادة في شرق المغرب متم شهر دجنبر2017 من احتجاج للساكنة، نتيجة للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المزرية التي يعيشون فيها منذ عقود، ولما تسببه قلة فرص الشغل من مأسي للشباب المجبرين على العمل في مناجم بدائية لاستخراج مادة الفحم، غالباً ما تؤدي بحياتهم نتيجة الاختناق بداخلها. 
الدراسة ستتناول كنقطة أولى، سياق تحرك حركة 20 فبراير في العام 2011، في ظل الوضع الذي كان سائداً وقتها بالمغرب، سواء على المستوى السياسي أو على المستوى الاقتصادي والاجتماعي. وكنقطة ثانية سنناقش بنية الحركة، فرغم  أن حركة 20 فبراير، هي حركة جماهيرية وليست بتنظيم يتحرك وفق قنوات وهياكل مؤسسة، فإنها ملزمة بوضع تصورات سياسية وبرامج نضالية تتحرك وفقها وتحشد الانصار على أرضيتها، كما أنها تحتاج لحد أدنى من التنظيم، بغية تنسيق حركتها وضبط طرق اشتغالها. وهي الترتيبات التي اتخذتها الحركة عبر أوراقها التـأسيسية ومنشوراتها، وترجمه نشطاءها وأنصارها تنظيمياً في حدود دنيا على صعيد كل مدينة تحت مسمى "مجالس تنسيقيات المدن".

المحور الأول: سياقات التحرك على المستوى السياسي، الاقتصادي والاجتماعي

لا يمكن الحديث عن اي حركة احتجاجية اجتماعية أو سياسية دون ان تكون لها بيئة حاضنة، تشكل الاساس الموضوعي لعملية التفاعل العلائقي مع البناء الذاتي للحركة، تكون نتيجته تبلور وإفراز لديناميات جديدة محدثة أو مكنسة لما هو قديم. 
دفع حدث وصول الملك محمد السادس للحكم سنة 1999، ودخول المغرب قبل ذلك بسنة في تجربة سياسية عرفت أو سميت بتجربة "التناوب التوافقي"، أو كما يراها البعض بتجربة "التناوب الديمقراطي"، الكثير من المغاربة لعقد الآمال بقطع البلاد مع عهد الاستبداد والتحكم السائد إبان حكم الراحل الحسن الثاني، والسير نحو إرساء دعائم بناء المجتمع الديمقراطي وقيام الدولة المؤسساتية.
وقد جاءت تجربة التناوب عبر المشاركة الاولى لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في الحكم، وتنصيب أمينه العام عبد الرحمان اليوسفي، لقيادة الحكومة في 4 من شهر فبراير 1998،  كأبرز الاحزاب المعارضة لنظام الحكم، في نهاية حقبة حكم الملك الحسن الثاني، وقبل بداية عهد الملك محمد السادس بقليل، كتصور جديد للمؤسسة الملكية لتوازنات الحقل الحزبي والسياسي، والذي ينبني أو مفروض فيه ان يبنى كدرجة اولى، على تجاوز وضعيات الجمود والخيارات التصادمية، التي سادت لعدة عقود في عهد مغرب الاستقلال.
ساهمت عدة عوامل داخلية وخارجية في انعطاف المغرب نحو ما سمي بتجربة التناوب، فعلى المستوى الداخلي، أتى ذلك في إطار توافق أو تراضي تم التمهيد له منذ بداية التسعينات بين نظام الحكم والمعارضة، والذي عجلت به مجموعة من المعطيات والظروف الداخلية، إذ أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتفاقم للمغرب في ذلك الوقت، لم يعد يسمح باستمرار أنماط التسيير السابقة، والتي أجمع الكل على أنها أدخلت المغرب في "غرفة الإنعاش"، أو "السكتة القلبية" كما وصفها الحسن الثاني وقتها.
على المستوى الخارجي، مثل سقوط جدار برلين، المعلن عن نهاية زمن الاستقطاب الدولي بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، دافعاً بأصدقاء المغرب الغربيين خاصة الفرنسيين، لحثه على الانفتاح على الاصلاح السياسي والديمقراطي، بعدما كانوا يغمضون اعينهم عن سلطوية نظام الحسن الثاني في مواجهة خصومه السياسيين من المعارضة الاشتراكية، في اطار دعم الانظمة السلطوية بالمنطقة المدافعة والمنخرطة في مصلحة النظام الرأسمالي وشركاته العابرة للقارات. 
أولا: الوضع على المستوى السياسي: مأزق تجربة التناوب وإشكالية التحول الديمقراطي 
قبل انطلاق حركة 20 فبراير 2011، وأثناء المرحلة الممتدة تقريباً منذ بدأ تجربة حكومة عبد الرحمان اليوسفي التوافقية وحتى انتخابات 2007 التشريعية، المغرب سيشهد تغييراً ملموساً وإن بشكل نسبي في جميع المستويات، سياسياً وحقوقياً، كما أن الفترة عرفت تحسناً اقتصادياً، عززته مجموعة من المؤشرات والأرقام، اضافة لإطلاق مجموعة من المشاريع والمبادرات، (مدونة الاسرة 2003، اطلاق مسلسل العدالة الانتقالية 2004، المبادرة الوطنية للتنمية البشرية 2005).
الشيء الذي جعل المغرب وإن لحين يتجاوز سكتته القلبية، حيث استطاع النظام السياسي تحت قيادة محمد السادس تقديم نفسه بصورة جديدة للشعب، الباحث والداعم للإصلاح بعيداً عن الصورة القاتمة المرسومة عنه أثناء سنوات الجمر والرصاص، وبدأ ينظر للملك كحاكم قريب من نبض وهموم شعبه، حتى صور "كملك للفقراء".
غير أن فرصة تحقيق التحول نحو مسار بناء الديمقراطية، انحرف عن المسار مرة أخرى، نتيجة إهمال الأطراف لأهمية تحديد الفهم الصحيح لموضوع التناوب، ذلك أن موضوعه لم يكن السلطة كما هو شأن التناوب أو الانتقال السياسي في الدول الديمقراطية، لأن هذا الموضوع حسمت فيه المؤسسة الملكية مبكرا بعد الاستقلال وصراعها المحتدم مع المعارضين، حين احتكرت جميع السلط، بل الموضوع تعلق فقط بتحمل مسؤولية الحكومة فقط وفي إطار إشراف الملك.
مأزق تجربة التناوب
كان حديث احد ابرز المعارضين لنظام الحكم، الوزير الاول السابق عبد الرحمان اليوسفي، قائد حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ومهندس تجربة التناوب التوافقي مع المؤسسة الملكية في السنوات الاخيرة لحكم الملك الراحل الحسن الثاني، في العام 2003 بالعاصمة البلجيكية بروكسيل، اثناء دعوته من طرف الحكومة ومجلس الشيوخ البلجيكيين، لتقييم تجربته الحكومية، وعرض وجهة نظره عن مسار الانتقال الديمقراطي بالمغرب، دالاً وحاملاً لعدة رسائل، من رجل خبر معترك السياسة ودهاليز صنع القرار بالمغرب لعدة عقود، عندما قال، " أن تجربة التناوب التوافقي التي قادها مع حزبه وبعض من المعارضين السياسيين السابقين، وعلق عليها جزء من الطبقات والفئات الشعبية أمالاً كبيرة، لم تؤدي إلى التناوب الديمقراطي الذي كان مرجوا منها". 
خيبة الامل هذه والممزوجة بحجم الغضب التي عبر عنها اليوسفي، انما تعكس المأزق الذي وجدت نفسها فيه الاحزاب السياسية ومكونات من النخبة السياسية المغربية، المؤمنة بأطروحة الاصلاح المتدرج أو "الاصلاح في ظل الاستقرار"، المتعاون مع المؤسسة الملكية، بعد تعيين الملك محمد السادس لإدريس جطو بعد انتخابات 27 شتنبر 2002 التشريعية، وهو غير المنتمي حزبياً، رغم  حصول حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية على الرتبة الاولى، مما يسمح له وفقاً للمنهجية الديمقراطية، واسس التوافق السياسي مع الملكية، باستمراره في الحكومة لولاية ثانية، ممثلاً بكاتبه العام اليوسفي أو شخص اخر من داخل الحزب.
ذات الشعور قد لا تتقاسمه بالضرورة المؤسسة الملكية الحاكمة مع شركاء الحكم المفترضين، حيث كانت لها حساباتها المختلفة بلا شك عن رؤية ومتمنيات الاحزاب السياسية، وهي المؤسسة التي ابانت على مر تاريخها، انها تنفر من مبدأ مشاركتها في الحكم وتقاسم السلطة، فهي شبيهة في رسمها لحدود العلاقة مع التنظيمات والحركات المستقلة سواء السياسية أو الاقتصادية أو الدينية، لشروحات كارل ويتفوكل Karl Wittfogel لبنية المجتمعات الرعوية، حيث تكون فيها السلطة تتغذى على شعور بأحقية الهيمنة والسيطرة على الجميع، والنظر لأطراف المجتمع كتوابع.
: إشكالية التحول الديمقراطي 
الوضع السياسي بالمملكة وخلال عهد محمد السادس، والذي تجاوز عقداً من الزمن قبل بروز حركة 20 من فبراير الاحتجاجية، بمطالبها المنادية بالإصلاح الديمقراطي، وباستثناء السنوات الاولى التي عرفت عدة خطوات ومبادرات في طريق التصالح مع ماضي مغرب الجمر والرصاص وانتهاك حقوق الانسان، والمتمثلة بالسماح بعودة ورفع الاقامة عن بعض السياسيين المعارضين، واعفاء وزير داخلية الحسن الثاني ادريس البصري، والذي كان بمثابة الفاعل السياسي الثاني في النظام السياسي، اضافة لتأسيس هيئة للإنصاف والمصالحة 2004، واعطاء مفهوم جديد للسلطة. سيعرف تراجعاً ملحوظاً باتجاه عودة اساليب الهيمنة والتحكم في الحياة السياسية، حيث سنشهد اتجاه نحو اضعاف الاحزاب السياسية والتشكيك في وظيفتها، وافراغ لقيمة الانتخابات من اي مضمون أو محتوى دال على الياتها الاختيارية. 
ذلك أن رهان السلطات من الانتخابات وخاصة في عهد محمد السادس، كان خارجياً بالحفاظ على صورة ديمقراطية تعمل وفق المعايير الغربية مع ملائمتها مع الالوان المحلية، وداخلياً بضمان نسبة مشاركة مقبولة، وان كانت المشاركة ليست مطلوبة في حد ذاتها، أو من اجل تحسين نوعي للمجال السياسي، ولكن بالأساس من اجل شرعنة بناء سياسي متحكم فيه، غير ان نتائج اقتراع 2007، ونسبة المشاركة الضعيفة بخرت هذا الحلم.
واذا كان هذا الوضع السياسي المتردي، تتحمل فيه المؤسسة الملكية الجزء الاكبر، باعتبارها هي صاحبة الحل والعقد، والركيزة الاساس في النسق السياسي برمته، فان هذا لا ينفي تحمل الاطراف الأخرى، من احزاب سياسية ونخب سياسية وفكرية وباقي الفاعليين المجتمعيين، من نقابات وجمعيات مدنية لجزء من المسؤولية، جراء تفويتها لعدة فرص للتحول الديمقراطي، وهو ما عبر عنه محمد بنسعيد ايت إيدر احد رموز الحركة الوطنية. 
ويمكن القول أن مسار الاصلاح الذي روج منذ اواخر حكم الحسن الثاني، كان بمثابة التحول الديمقراطي الزائف Pseudo، حيث اسس لمرحلة التناوب المسدود مع حكومة عبد الرحمان اليوسفي، لتيسير انتقال العرش للوريث الجديد، قبل ان ينطلق عهد التحول الديمقراطي المجمد Frezen مع حكم محمد السادس، وكلها نماذج لوصف دافيد هيلد David Held  لأبعاد التحول الديمقراطي، عندما تكون سيرورات الانتقال ملتبسة من نظام سلطوي إلى أخر ديمقراطي. 
وقد ظهرت مؤشرات هذا المسار بشكل كبير بعد انتخابات 7 شتنبر2007 التشريعية والانتخابات الجماعية 12 يونيو 2009، لا سواء في حجم العزوف أو في ظهور حزب وليد من رحم السلطة (الاصالة والمعاصرة 2008)، واحتلاله للرتبة الاولى في الانتخابات الجماعية 2009.
الامر الذي انعكس على صورة المغرب في جدول تصنيفات المنظمات الدولية المهتمة بالديمقراطية لسنة 2010، فوفق "مبادرة تصنيف الديمقراطية العالمية Global Democracy Ranking" والتي يوجد مقرها بالعاصمة فيينا، كان المغرب في الرتبة 90 خلف دولة كينيا والموزمبيق، بمجموع 43 نقطة من اصل 104 دولة توفرت فيها معطيات وسمحت السلطات فيها بالبحث، بينما كانت تونس تحت حكم نظام زين العابدين بن علي قبل سقوطه، تحتل الرتبة 85 متقدمة 5 مراتب على المغرب وبمجموع 45.8 نقطة. وهو التصنيف الذي تبنيه المنظمة على مجموعة من المؤشرات: سياسية مرتبطة بطبيعة النظام السياسي الحاكم ودرجة قبوله بتنظيم انتخابات حرة ومستوى احترامه للحريات والحقوق، اضافة لمؤشرات أخرى متعلقة بالمساواة وشفافية النظام الاقتصادي وجودة التعليم والخدمات الصحية وتوفر بيئة سليمة.
كما أن تصنيف المغرب وفق مؤسسة "دي ايكونوميست انتيليجنت يونيتThe Economist Intelligence Unit" البريطانية المعروفة، كان في الرتبة 116 بمعدل 3.79/10 نقطة، من أصل 167 دولة، خلف موريتانيا في الرتبة 115 وقبل الاردن الرتبة 117، بينما وضعت تونس في المرتبة 144 بمعدل 2.79/10 نقطة، وهي الرتب التي تضع كافة أنظمة هذه الدول العربية الاربعة في خانة الانظمة السلطوية، قياساً لعديد من المؤشرات (نسبة الانفتاح، مسار الانتخابات وتوفر التعددية، تفعيل دور الحكومات، نسبة المشاركة السياسية، انتشار الثقافة السياسية، احترام الحريات المدنية).
واذا كانت ملحاحية مطلب الاصلاح السياسي لبنية نظام الحكم، ولتموقع المؤسسة الملكية في النسق السياسي المغربي، محور الصراع الذي طبع فترة حكم الحسن الثاني لفترة قاربت الاربعة عقود مع الاحزاب السياسية المعارضة، فأن عهد الملك محمد السادس شهد خفوت هذا المطلب مقابل صعود الاحتجاجات، المرتبطة بغلاء الاسعار ومشاكل التعليم والصحة، فطوال عشر سنوات أو اكثر من حكمه، تجنب في خطاباته المتعددة والمتنوعة، الخوض مباشرة في موضوع الإصلاح السياسي والدستوري.
لكن مطلب الاصلاح السياسي والتغيير الديمقراطي، سيكون العنوان الابرز والفارق لحركة 20 فبراير، والتي استطاعت لأول مرة وعلى غرار معظم الحركات الاجتماعية التي اجتاحت عدة بلدان في منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا، ان تظم مزيجاً من التوجهات الايديولوجية والسياسية المختلفة، والتي توحدت فقط في معارضتها للحكم السلطوي بمختلف تجلياته، إذ بجانب الشعارت والمطالب المنادية بالعدالة الاجتماعية وبحق الحصول على خدمات في مجال الصحة والتعليم والسكن، كان مطلبهم الاول والجوهري مرتبط بالمسألة السياسية وبضرورة وضع دستور ديمقراطي، يستند في اساسه على الشعب وعلى استقلال القضاء وفصل السلطات، فقد ردد المتظاهرين شعار" الملك يسود وما يحكم"، كما طالبوا بالفصل الواقع بين قطاع الاعمال والسلطة.  
ثانياً: الوضع الاقتصادي والاجتماعي: اجتماع المال بالسلطة وغياب التنمية
تراجع المغرب أو بالأحرى عدم احرازه أي تقدم على مستوى القطع مع ماضي دولة غياب القانون والمحاسبة، تجلت أيضاً في حجم انتشار ظاهرة الفساد، المتجلي في ارقام الرشوة والمحسوبية وعدم الشفافية في تدبير الموارد الاقتصادية والمالية، فعشية انطلاق الحراك الشعبي، وحسب مؤشرات منظمة الشفافية العالمية،"ترانسبارنسي Transparency" لسنة 2010، كان المغرب يحتل الرتبة 85 من اصل 187 بلد، وبمعدل ضعيف نسبته 3.4/10. على الرغم من أن الملك محمد السادس، ومنذ اعتلائه العرش عام 1999 وحتى خطابه في 9 مارس 2011، ما انفك يطالب بتخليق الحياة العامة. 
اقتصاد المغرب واشكالية الجمع بين المال والسلطة
 كانت معادلة التخلص من شبح السكتة القلبية في العقد الاخير من حكم الملك الراحل الحسن الثاني (1989/1999)، مرتبطة في ممارسة الدولة المغربية بنزعة الانتقال من ليبرالية مقنعة إلى ليبرالية اكثر وضوحاً، عبر نهج سياسة الخوصصة سنة 1993، كخيار يؤطر السياسة الاقتصادية للبلاد وتوجه يرسم نموذجها التنموي، إلى حد اضحت معه هذه السياسة مكوناً اساسياً للفلسفة الاقتصادية للنظام السياسي.
سياسة تفويت القطاعات والمؤسسات العمومية للقطاع الخاص، والتي روج لها رسمياً ومن قبل المؤيدين، باعتبارها الاجابة والحاجة الضرورية لحفظ التوازنات الماكرو اقتصادية للاقتصاد المغربي، بعد بروز جملة من المؤشرات الاقتصادية لفشل سياسة برنامج التقويم الهيكلي( 1983/1993) في تحقيق النمو، وهو الفشل الذي اعترفت به المؤسسات المالية الدولية الحاثة عليه، قبل ان يؤكده الملك الحسن الثاني كرئيس للدولة والمسؤول الاول عن سياسة البلاد وقتها، في خطابه امام البرلمان سنة 1995، مرت بمرحلتين من حيث الصعود والنزول، وإن أحذت منحى واحد سمته الأبرز: بقاء الاقتصاد المغربي حبيس منوال تنمية يخلط بين السلطة وتحقيق المنافع الاقتصادية، في مقابل تهميش يطال الأغلبية. 
المرحلة الأولى: مرحلة الصعود 
الدولة المغربية بفضل سياسة الخوصصة والانفتاح على الرأسمال الوطني والدولي، تمكنت من تحقيق مجموعة من المكاسب الاقتصادية، خاصة بعد وصول الملك محمد السادس للحكم منذ العام 1999، بما ترافق ونهجه سياسة فتح وتسريع تجهيز البلاد ببنيات تحتية حديثة واستقطاب للخبرات والتكنولوجيا المتقدمة، عبر وضع عدة مخططات ومبادرات استراتيجية لاستقطاب الاستثمارات الاجنبية، والتي بلغت مستوى قياسي سنة 2001( 33267.8 مليون درهم)، مقارنة بسنوات التسعينات الموالية لإطلاق سياسة الخوصصة، احتل المغرب بموجبها الرتبة الثانية بالقارة الافريقية من حيث نسبة استقبال الاستثمارات الاجنبية، وفق ارقام تقرير للأمم المتحدة للتجارة والتنمية بالقارة الافريقية.
جني الاقتصاد المغربي للمكاسب سيستمر حتى حدود سنة 2009، اي بعد سنة  من الازمة الاقتصادية العالمية 2008، والتي هزت الاسواق الدولية، خاصة السوق الاوربية الشريك التجاري الاول والرئيسي للمغرب، اذ سجل الاقتصاد من خلال هذه السنوات 1998-2008 نسبة نمو بلغت في المتوسط 4.4% بعد ان كانت لا تتجاوز نسبة 2.4%، في فترة العشرية السابقة 1988/1998، وارتفع الطلب الداخلي بمتوسط بلغ 5.1% عوض 2.4%، كما انتقل معدل الاستثمار العام من 24.8% سنة 1999 إلى 32.6% سنة 2009، وسجلت نفقات الاستهلاك للأسر ارتفاعاً ب 4.3% كمتوسط سنوي، كتعبير عن تحسن القدرة الشرائية. 
النمو في الاستثمارات الاجنبية وارتفاع مداخيل الدولة من بيع الفوسفاط، والذي تضاعف ثمنه اكثر من ثلاث مرات في فترة 2003/2009، قد ساهم في قدرة الدولة على الرفع من نسبة الاستثمار العمومي، مما اثر في تطور وتيرة ولوج السكان إلى الخدمات الاجتماعية الاساسية، حيث تم تعميم الولوج لخدمات الكهرباء والماء في الوسط الحضري، اذا انتقلت النسبة من 9.7 % في العام 1994 إلى 83.9% سنة 2009 بالنسبة للكهرباء، ومن 14% إلى 90% بالنسبة للماء الصالح للشرب. وفي مجال التعليم انتقل المعدل الصافي لتمدرس الاطفال المتراوحة اعمارهم من 6 و11 سنة من 52.4% إلى 90.5% سنة 2009 على المستوى الوطني، وانتقل معدل الفقر النسبي من 16.3% سنة 1998 إلى 8.8%، في هذه السنوات ستعرف نسبة البطالة انخفاضاً كذلك من 13.4% إلى ما يقرب 9% وان بقيت مرتفعة في صفوف حاملي الشهادات الجامعية العليا بمعدل تجاوز 16% في سنة 2008.
المرحلة الثانية: مرحلة النزول
هذه المعطيات والارقام الايجابية نسبياً للوضع الاقتصادي بالمغرب، مقارنة مع عقدي الثمانينات والتسعينات، وهي العقود التي عاشت فيها البلاد على وقع الانتفاضات والحركات الاحتجاجية ذات المطالب الاجتماعية، كانت قد جعلت من البعض يضن ان المغرب في طريقه للتحول إلى بلد بازغEmergent ، متجاوزاً ازمته الاقتصادية البنيوية كما هي اقتصادات البلدان التبعية للدوائر المالية العالمية. لكن انفجار الازمة الاقتصادية العالمية للعام 2008، سرعان ما اسقط هذه الاوهام، وكشف عن هشاشة الوضع الاقتصادي، حيث انخفض الطلب الخارجي على المواد الاولية والنصف مصنعة، وتراجعت الاستثمارات الاجنبية ومداخيل السياحة وتحويلات المغاربة بالخارج، مما عمق العجز في ميزان الأداءات وزاد من عجز الميزانية العامة، امام ارتفاع مصاريف صندوق المقاصة وتغطية فوائد الدين العام الخارجي، والذي بلغ نسبة 15% من الناتج الوطني الخام سنة 2010. كل هذا في ظل اقتصاد يفتقد إلى شروط المنافسة والشفافية، وذلك لاعتبارين: 
الاول: هيمنة القطاع الفلاحي ذو الارتباط بتساقط الامطار، وتضخم في نسبة الانشطة غير المنتجة والاعمال المضاربتية والقطاعات الضعيفة التحويل، حيث بلغت نسبة قطاع الفلاحة والخدمات والبناء والاشغال العمومية ما مجموعه 69.2% من حجم الناتج الداخلي الخام كمتوسط خلال فترة 1999-2014، مقابل تسجيل تراجع في القطاعات ذات المردودية كقطاع الصناعة والمناجم والطاقة بنسبة 21% خلال نفس الفترة. 
الثاني: التداخل بين مواقع السلطة والمال، فاذا كان الاقتصاد التونسي في عهد بن علي يوصف باقتصاد رأسمالية النسايب والاقارب Capitalisme de Copinage، فأن اقتصاد المغرب يمكن تسميته برأسمالية البلاط Capitalisme de cour، فمنذ انتصار مشروع القصر الملكي لمغرب ما بعد الاستقلال، بعد اسقاط تجربة حكومة عبد الله ابراهيم في العام 1960، وما تلاها من هيمنة للمؤسسة الملكية على الاقتصاد والسياسة، اصبحت هذه الاخيرة الفاعل الاقتصادي رقم واحد في البلاد، مع ما رافق هذه الهيمنة من ضرر على الاقتصاد ودرجة تدبيره للقطاعات الاستراتيجية ومن سيادة لروح التنافس والشفافية، بعيداً عن سياسة الاحتكار وتبذير الموارد والامكانيات لفائدة شركات ومجموعات اقتصادية جنت الارباح الخيالية. 
فقد كشفت سياسة الخوصصة للدولة وخلافاً لهدفها المعلن بالحد من الاحتكارات وخلق شروط المنافسة، ان العديد من الشركات والمقاولات والتي تعود للأسرة الملكية وللمقربين منها، كمجموعة اونا ONA والتي اصبحت تحمل اسم الشركة الوطنية للاستثمارSNI  منذ العام 2010 والبنك التجاري المغربي والذي اصبح اسمه منذ العام 2003 التجاري وفا بنك، والبنك المغربي للتجارة الخارجية لصاحبه الملياردير عثمان بنجلون وبتحالف مع الرساميل الاجنبية، هي التي استفادت من تفويت معظم المقاولات والمؤسسات العمومية المحورية في الاقتصاد الوطني. 
الوضع الاجتماعي ومؤشرات التنمية الغائبة                                                                                                                                                                                                                                         
  امام الازمات الاقتصادية والمالية التي عرفها المغرب تاريخياً، واسمراراً لنفس منوال التنمية، المتماهي مع شروط المانحين الدوليين (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي)، باعتبارهم من الادوات الحقيقية لسيطرة راس المال الصامتة حسب تعبير نورينا هيرتس Nourina Hertz، على سياسة الدول المنخرطة في السوق الدولية وعولمة التجارة. لجأت الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال لمزيد من السياسات الليبرالية وحزمة من الاجراءات التقشفية، مستهدفة الطبقات الاجتماعية الاكثر فقراُ وهشاشة، (أكثر من 5 ملايين مغربي يعانون من الفقر المدقع والهشاشة حسب الارقام الرسمية اواخر سنة 2010 والاول من سنة 2011)، والفئات والاسر المتوسطة الدخل، (حسب ارقام المندوبية السامية للتخطيط لسنة 2007، تبلغ هذه الفئات اكثر من 50% من السكان، وهي تضم كل من يفوق دخله 3500 درهم).
كل هذا في مقابل ازدياد في نسبة الفئات والاسر الغنية والاكثر غنى، (تبلغ حوالي 13% من السكان)، نتيجة ارتباطها وقربها من مراكز القرار ودوائر الحكم، وهذا ما يؤكده ارتفاع مؤشر جيني للفوارق في توزيع نفقات استهلاك الاسر الذي انتقل من 0.397 سنة 1985 إلى 0.407 سنة 2007، وفي ارتفاع حصة ال10% الاكثر يسراً في مجموع نفقات الاسر من 31.7% إلى 33.2% من نفس الفترة، فيما ظلت حصة ال10% الاقل يسراً في حدود 2.6%، كما ارتفعت  نسبة الاسر التي تقل نفقاتها عن المعدل الوطني من 65.4% إلى 68% من الفترة ذاتها.
هذه الارقام حول استهلاك وتوزيع الاسر، قد لا تعطي الصورة الكلية عن حجم التفاوت الاجتماعي وما عرفته من اتساع بين الاغنياء والفقراء، خلال السنوات السابقة على ظهور حركة 20 فبراير، ومن قبلها من تفجر لحركات احتجاجية ذات المطالب في تحسين المعيشة وايجاد فرص للشغل بمدينة صفرو سنة 2007 وسيدي افني سنة 2008، وعدة مناطق اخرى خلال سنوات 2009 و2010، في ظل غياب معطيات عن توزيع الدخول Revenus والاصول Patrimoines. أو بالنظر إلى ارقام ومعطيات المنظمات والهيئات الدولية بعيداً عن الارقام الحكومية الرسمية.
فحسب دليل التنمية البشرية وعناصره، الصادر عن برنامج الامم المتحدة الانمائي لسنة 2010، جاء المغرب في المرتبة 114 من اصل 163، وضمن خانة البلدان ذات التنمية البشرية المتوسطة، مقارنة مع تونس الرتبة81 والجزائر الرتبة 84 والمصنفين في خانة البلدان ذات التنمية البشرية المرتفعة، حيث كان نصيب الفرد في المغرب من الدخل القومي 4628 دولار مقابل 7979 دولار و8320 دولار في تونس والجزائر توالياً.
ودائماً مع ارقام برنامج الامم المتحدة الإنمائي PNUD، والذي يعتبر أكثر صدقية مقارنة بغيره من المؤسسات والهيئات الدولية، في بحث نشره حول دليل الفقر المتعدد الابعاد لفترة 2000-2008، كانت نسبة المغاربة التي تعاني من فقر متعدد الابعاد تناهز %28.5 من مجموع السكان مقابل 2.8% في تونس، ونسبة الذين يعانون من شدة الحرمان 48.8% مقابل 37.1% بتونس، 36.4% من الحرمان في مرفق التعليم و31.5% في مرفق الصحة و21.4% في مستوى المعيشة، مقارنة بأرقام 1.1% و13.1% و6.9% من الحرمان في ذات المرافق بالنسبة للتونسيين.
تتبع مسار المخططات الاقتصادية بالمغرب والمنطلقة منذ اواسط التسعينات مع سياسة الخوصصة، والتي أخذت منحى تصاعدياً وأكثر انفتاحاً على الرأسمال الخاص الدولي والمحلي، وبمقاربة جديدة في عهد حكم الملك محمد السادس، باستهدافها خلق البنى التحتية لاقتصاد تنافسي وجاذب للاستثمارات، القادر على تحسين الوضعية الاجتماعية للفئات والطبقات العريضة من الشعب المغربي، خاصة الفئات الاكثر فقراُ وحرماناً، يوضح وبالأرقام والمعطيات، ان ثمارها كانت مؤقتة ومحدودة في تحسين مستويات التنمية البشرية، من جودة في التعليم والخدمات الصحية وفي القضاء على مدن الصفيح وخلق مناصب شغل جديدة، مقارنة مع اتساع قاعدة الساكنة النشيطة والحد من التفاوت الطبقي والذي اتسع أكثر، بالرغم من الاموال الضخمة المخصصة لمشروع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية. 
تشريحنا للوضعية الاقتصادية والاجتماعية للمغرب قبل الحراك الشعبي الذي اطلقته حركة 20 فبراير، والذي كان سيئاً، لا يعني تجاوز التحسن الملحوظ في البنية التحتية للمغرب، وفي نسبة انتشار الامية وهي التي انخفضت حسب الأرقام الرسمية، من حوالي 50% سنة 1998 لحدود 28% سنة 2009، وفي نسبة تزويد السكان بالكهرباء والماء سواء في المدن أو البوادي، اذا انتقلت النسبة من 9.7 % في العام 1994 إلى 83.9% سنة 2009 بالنسبة للكهرباء، ومن 14% إلى 90% بالنسبة للماء الصالح للشرب.
المحور الثاني: حركة 20 فبراير: التشكيل، الحشد والتنظيم 
حركة 20 فبراير أخذت مساراً تسلسلياً وزمنياً في تشكلها، انطلق بداية بمرحلة طرحت فيها مجموعات شبابية على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة الفيسبوك، مجموعة من التصورات والمطالب للحركة المزمع اطلاقها، تلاها مرحلة التشكل والتي تمت فيها عملية فرز بين القوى والتنظيمات المجتمعية الملتحقة والداعمة للحركة، وبين نظيراتها المشككة أو المناهضة للحركة. هذه المرحلة كانت بمثابة المدخل لمعرفة وقياس حجم التفاعل الشعبي مع الحركة المحتجة ومطالبها المرفوعة، وكمرحلة ثالثة تمت صياغة هذه التصورات والمطالب في شكل وثائق واوراق.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق