الدستور الديمقراطي - مدونة تحليل السياسات

اَخر المشاركات

منصة إلكترونية تعنى بقضايا المعرفة السياسية

الثلاثاء، 2 أكتوبر 2018

الدستور الديمقراطي

 الكاتب  د. محمد مالكي


يعني مصطلح "دستور، الذي يقابله في الفرنسية « Constitution »  ،"التأسيس أو البناء"، أي التنظيم أو القانون الأساسي " ، فهو يحيل على مرجعية مفادها البحث عن الأسس الكفيلة بتأصيل وضبط ممارسة السلطة وتنظيم مؤسسات الدولة ، وعلى خلفية ذلك يفسر لماذا ارتبط مفهوم الدستور بالد ستورانية الأوروبية الهادفة، مع مطلع القرن الثامن عشر، إلى إعادة بناء الدولة والسلطة على تصورات فلسفية وآليات تنظيمية جديدة.

فبغض النظر عن الجدل الفقهي بخصوص التعريف والتحديد، تثير مسألة "الدستور" العديد من الأسئلة الخاصة بتاريخية وجودها كفكرة، والدلالات التي اكتستها عبر حقب تطورها، والشروط التي سهلت إمكانية صيرورتها مفهوما مركزيا، وانتقالها من السياق القاري الأوروبي، إلى المستوى العالمي والكوني، وكلها قضايا بالغة الأهمية من الناحيتينالعلمية والعملية في فهم معنى الدستور وإدراك مركزيته. بيد أن أهم سؤال، نعتقد برجاحة طرحه، يتعلق بالشروط العامة التي قررت ميلاد فكرة الدستور وساعدت على انتشارها على الصعيدين القاري والدولي.

لعل من الصعوبة بمكان الإلمام بأصول فكرة الدستور وتمثل دلالاتها بمعزل عن التطورات المعتملة داخل المجتمعات الأوروبية على امتداد الفترة الفاصلة بين القرنين السادس عشر والسابع عشر.فقد شهدت أوروبا نهضة شاملة طالت نظامها الاقتصادي، وعلاقتها الاجتماعية، ونظمها السياسية ، وأسسها المعرفية والثقافية، فكانت المحصلة أن دخلت دولا ومجتمعات دائرة العقلانية والحداثة وبناء دولة القانون، التي يشكل المجتمع المدني ومشاركته عنصرا مقررا فيها. فعلى خلفية هذه التطورات، ولدت الحاجة إلى دسترة الحياة السياسية، أي إخضاع الدولة وممارسة السلطة والعلاقات بين المؤسسات لوثيقة تتضمن مجموعة من القواعد المكتوبة المحددة لفلسفة وشكل الدولة، والقادرة على تقييد سلطاتها العامة.2 بيد أن الربط بين فكرة الدستور والتغيرات المشار إليها أعلاه لايكفي وحده للتدليل على أصل الظاهرة الدستورية، بل يستلزم، إضافة إلى ذلك، تحليل العلاقة الطردية بين تشكل الطبقة الوسطى (الرأسمالية لاحقا) واستحكامها في مقومات النسيج الاقتصادي والاجتماعي ورغبتها في الاستحواذ على السلطة ومصادرها، وهو مشروع لم يكن في استطاعتها إنجازه دون وضع قواعد دستورية قارة وواضحة، تقيد السلطة وتضبطها من جهة، وتضفي المشروعية على ممارستها من زاوية ثانية، المعطى الذي عبرت عنه دساتير الجيل الأول في كل من الولايات المتحدة الأمريكية (1787)،وفرنسا (1791-1973-1795).

فالقاعدة إذن، أن تتوفر الدولة على دستور يحدد فلسفة حكمها وطبيعة نظامها ، وينظم علاقات سلطاتها، ويضمن حقوق وحريات أفرادها، أما الاستثناء فحين تنعدم هذه الوثيقة ولا تكترث الدولة بوجودها، وفي هذا السياق كان "اندريه هوريو" محقا حين شدد على أن "الرغبة في الدخول إلى المجتمع الدولي بدون دستور، هي تقريبا الدخول إلى حفلة ساهرة بثياب الحمام"3. بيد أن الدستور وحده لا يكفي لاكتساب الدولة المشروعية المطلوبة، بل تصبح المشروعية légitimité حقيقة مقبولة حين تتعزز وثيقة الدستور بالاحترام وتحاط بالشروط الكفيلة بضمان صيانتها ، أي حين تتحقق الشرعية الدستورية légalité constitutionnelle .

إن ما يميز الدستور الديمقراطي Constitution démocratique ويجعله جديرا بهذه الصفة استناده على جملة مقومات تضفي صبغة الديمقراطية عليه، وتبعده عن الدساتير الموضوعة إما بإرادة منفردة، كما هو حال الدساتير الممنوحة، أو عبر استفتاءات مفتقدة إلى شروط الاستقلالية والحياد والنزاهة. لعل أهم مقومات الدستور الديمقراطي (أولاً): تأسيسه علي مبداء المواطنة الكاملة المتساوية والتسليم بأن الشعب مصدر السلطات ولاسيادة لفرد أوقلة عليه, (ثانياً) : حكم القانون،(ثالثاً): أن يحترم فيه فصل السلطات (رابعاً): تؤكد فيه الحقوق والحريات (خامساً): ان يتم الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة بين الأغلبية والمعارضة. هذا بالإضافة إلى الطريقة التي يوضع بموجبها الدستور من قبل جمعية وطنية تأسيسية منتخبة.

أولا:في أن يكون الشعب مصدر السلطات

يشكل هذا المقوم أحد دعامات الدستور الديمقراطي .فما معنى أن يكون الشعب مصدر السيادة ؟ ،وما هي الآثار المترتبة عن تحقق السيادة في الشعب؟

1- في معنى السيادة اللازمة للدستور الديمقراطي

يحيل مفهوم السيادة على معنى القدرة .فالدولة ذات السيادة هي "الدولة القادرة على اتخاذ القرارا ت والأعمال المتصلة بمصيرها على الصعيدين الداخلي والخارجي بحرية تامة" 4 ، أي أنها "سلطة حقوقية متفوقة"، تجعل الدولة إطارا وحيدا قادرا على امتلاك مشروعية استتباب الأمن والنظام بالداخل، وتملك حرية التعامل على صعيد العلاقات الخارجية. 5 و ينطبق المدلول نفسه على "الشعب". فهكذا ، تتحقق سيادة الشعب حين يصبح أفراده قادرين على تقرير مصيرهم بأنفسهم، دون شعور بالضغط أو الخوف، أو تقييد إرادتهم. فالشعب بهذا المعنى يكون مناط السلطات ومصدرها، حيث لا سلطة لفرد أو قلة عليه، أو بتعبير عبد الحميد متولي : "لا سيادة لفرد ولا لقلة على الناس."6.

يذكر أن نقاشا عميقا وواسعا طال مدارس الفكر السياسي الأوروبي الحديث حول مبدأ السيادة، وما إدا كانت الأمة nation أم الشعب peuple مصدرها، والحال أن الجدل كان يعكس في سياقه التاريخي تناقضا بين أطروحتين متباينتين بخصوص مسألة السلطة وآليات ممارستها، ولم ينظر قط إلى القضية باعتبارها اختلافا تقنيا حول وسائل الحكم وتدبير الشأن العام . فالقائلون ب "سيادة الأمة" (السيادة الوطنية) يرجحون إقرار النظام التمثيلي، الذي دون أن يجرد الشعب من المشاركة السياسية يقيد حجم مساهمته. أما أنصار نظريات "السيادة الشعبية"، فيسعون إلى توسيع فضاء مشاركة المواطنين بتخويلهم مجموعة من الوسائل المتراوحة بين تعميم حق الانتخاب وتنويع أدواته، والحق في الاعتراض على القوانين والمبادرة في اقتراحها ورفضها .

حول مبدأ سيادة الأمة

يقضي مبدأ السيادة الوطنية souveraineté nationale أن تتشخص السيادة في الأمة التي تتكون من كل الأفراد الذين يتشكل منهم عنصر الشعب، لكن تفوقهم وتسمو عنهم من حيث القوة الرمزية والعمق التاريخي.7 فالأمة كيان عضوي معنوي، يرمز للماضي والحاضر والمستقبل، كما يضم الأحياء والأموات والذين سيولدون غدا، إنها "تشخص استمرار الدولة والنظام".8 لذدلك، ذهب الفقه الدستوري إلى أن "السيادة الوطنية تأكيد المثالية الديمقراطية 9 ،أي هي " تأكيد حكم المجموع بالمجموع لمصلحة المجموع"،10 مما يفيد أن مبدأ سيادة الأمة يعني تحقيق وحدة الحاكمين والمحكومين بغية تجسيد مبدأ الصالح العام، ومن ثمة لا تكون "السيادة الوطنية إلا حيث يكون أساس الحكم كلمة الشعب".

يترتب عما سلف أن السلطات في الدولة يجب أن تمارس لمصلحة الجميع، لا لمصلحة الحاكمين الشخصية ولو كانوا يمثلون الأكثرية. السلطة والحكم وجدا بالضرورة من أجل الشعب، وليس الشعب هو الذي وجد من أجل الحكم. فحين يتمكن مجموع أفراد الشعب من تسيير أمورهم العامة، تتجسد السيادة في الأمة وتصبح مصدر السلطات. بيد أن التاريخ علمنا أن كل طبقة، أو شريحة، أو فئة تتملك السلطة تجنح بالضرورة إلى استغلالها لصالحها وليس لمصلحة الجميع، غير أن العقل البشري، باجتهاده، تمكن في نظم سياسية كثيرة من لجم أنانيات الأفراد والجماعات وجعل الانتصار للمشترك قيمة مجتمعية سامية. فحين يتحقق التعايش بين الميولات الفردية وضرورات العيش المشترك تتيسر سبل التعبير عن الطموحات الشخصية ويصبح المجتمع أكثر جاهزية لتقبلها والدفاع عن مشروعيتها. لذلك، تتطلب الديمقراطية في مثاليتها أمرين متلازمين على حد قول الفقيه جورج فيديلg.vedel :استقلال الفرد إزاء السلطة قدر الإمكان، وتملك الأفراد بمجموعهم هذه السلطة بالذات، و بصيغة أدق إن الديمقراطية هي التي " تتحقق فيها الحرية على صعيدين: حرية كل فرد ، أي سلطة تحديد نفسه بنفسه، وحرية المجموع، أي حرية الأفراد بأن يحددوا بأنفسهم نظام حياتهم المشتركة"11 ، ربما يبدو صعبا إن لم يكن مستحيلا الجمع بين طرفي ثنائية يبدوان في خط التعارض: حرية الفرد وسيادة المجموع. فمن أجل تحقيق ذلك يكون المجموع في أوكد الحاجة إلى إعمال قاعدة الإجماع وليس قاعدة الأكثرية، لأن الإجماع وحده كفيل بادراك مقصد الوفاق بين الفرد والمجموع، أي تحقيق الوحدة الكاملة بين الحاكمين والمحكومين، إذ يشترك الجميع في الحكم، ولا يطيع أحد غير نفسه مع ذلك."12

يصعب على صعيد الممارسة تجسيد قاعدة الإجماع. ففي مجتمعات مؤسسة على فلسفة الاختلاف في مظاهره المتنوعة الاجتماعية والسياسية والفكرية، وحتى اللاتنية واللغوية أحيانا ، يكون من قبيل الطوبي الانتصار لفكرة الإجماع، إذ بقدر ما يختلف الناس ويدافعون عن شرعية اختلافهم، بالقدر نفسه ينشدون الوفاق والتوفيق بين متناقضاتهم .لذلك، كان مفهوم المعارضة، أو "الحق في المقاومة" بتعبير "ج لوك" فاتحة عهد جديد في بناء السياسة والحكم وتدبير الشأن العام. لقد انسحب مفهوم الإجماع لصالح الأكثرية، التي لا تعني حكم الغلبة باسم الأغلبية، بل حكم الأكثرية باسم القانون، فالناس حين يمنحون أصواتهم بمحض إرادتهم، أي يفوضون سيادتهم لأكثرية، لايفوتون حقوقهم، فشتان ما بين التفويض والتفويت، إنهم يمنحون الأكثرية سلطة النيابة عنهم باسم القانون والشرائع المتوافق عليها، وقد كان "غرفيتش" محقا حين قال: "ليست الديمقراطية حكم العدد بل هي حكم القانون". ميزة النظم ذات الدساتير الديمقراطية أنها تحكم باسم الأكثرية دون التفريط في الأقلية (المعارضة)، فإذا كانت الأكثرية مالكة السيادة عبر التفويض، فإن للأقلية حقوقا مكفولةبالدستور وحكم القانون، ففي سياق من هذا النوع "تتحقق في المجتمع صورة اقرب ما تكون إلى حكم الفرد بالفرد والجميع بالجميع في وقت واحد"13، لعل أجود ما ابتكره الفكر الديمقراطي الحديث مواءمته بين الميولات الفردية الطبيعية في الإنسان، وضرورات العيش المشترك.

ب في معنى السيادة الشعبية وحدودها

يكتسي مصطلح "شعب" peuple معاني كثيرة، تختلف بحسب السياقات التي يوظف فيها. فالشعب ركن من أركان الدولة، وأحد دعامات نشوئها، إذ يتعذر ميلاد الدولة واكتساب الشرعية دون استنادها على جماعة بشرية متوفرة على حدة أدنى من التماسك والانسجام، ومع ذلك يتميز مصطلح "شعب" عن غيره من المفاهيم، كالأمة والسكان، أو الطائفة ، والزاوية، والعشيرة والقبيلة . فأفراد الشعب هم أحياء الأمة، يشكلون فرعا منها وتظل هي الأصل، فإذا كان من الصعوبة اليوم إقامة فواصل دقيقة ونهائية بين سيادة الأمة والسيادة الشعبية، فإن ثمة قيمة منهجية استوجبت إقامة فصل إجرائي بينهما، بغية فهم سياق التنازع والتعارض في التاريخ، واستنتاج الآثار الحقوقية المترتبة عنهما. فهكذا، لم يتردد أحد الذين مهدوا للثورة الفرنسية بأفكارهم وخدموا مشروعها السياسي بعد نجاحها عام 1789، "عمانويل جوزيف سييس"14 ، في توظيف مفهوم الأمة لجعل المشاركة السياسية مقيدة باعتبارات المال (الضرائب)، والجنس (المرأة) والسن ،والتعليم، فحيث أن أكثرية المواطنين في رأيه، "لا يتوفرون على التعليم والثقافة، ولا يملكون الوسائل الضرورية ليقرروا بأنفسهم في الشؤون العامة... ينبغي أن نكتفي منهم بأخذ رأيهم في تعيين النواب الذين هم أقدر الناس على اتخاذ القرارات، وبذلك يمكن لأولئك الذين لا يتوفرون على الأهلية لمزاولة شؤون الحكم أن يمنحوا ثقتهم إلى مواطنين آخرين هم أدرى بالصالح العام وبتأويل الإرادة الشعبية"15. بيد أن فكر "سييس" ، وبعض الذين ساندوا أطروحته، سرعان ما انتقد وتمت الدعوة إلى تجاوزه بالانتصار لنظرية السيادة الشعبية على خلفية توسيع دائرة المشاركة ورفع الشروط المقيدة لها، وفي هذا الصدد تقدم كتابات ج ج روسو دفاعا متميزا عن هذا المنحى، على الرغم مما يلف أفكاره من غموض والالتباس وتعقيد أحيانا16 .

تنهض أطروحة روسو ذات الشأن، كما تضمنها مؤلفه "العقد الاجتماعي" (1762)، على فكرة مفصلية تدور حول الرغبة في الوحدة. فبمقتضى العقد الاجتماعي يندمج الأفراد في الجماعة، ليكونوا شخصا جديدا هو "الإرادة العامة"، أو على حد قوله "كل منا يضع في الشراكة شخصه وكل قدرته، تحت سلطة الإرادة العامة، ونحن نتلقى ككل، أي كجسم، كل عضو وكأنه جزء لا يتجزأ من الكل. كل شريك يتحد مع الكل ولا يتحد مع أي شخص بشكل خاص، إنه لا يخضع هكذا إلا لذاته ويبقى حرا كما في السابق.." 17 فكأننا به يقول إن الشعب الذي توحد بطواعية وكامل السيادة، هو في الوقت ذاته سيد نفسه، حجته في ذلك حريته التي لم يفقدها في سياق إبرامه العقد الاجتماعي وتكوين الإرادة العامة، وهو ما نبه إليه بالقول: "والشعب الحر يطيع ولكنه لا يسترق، له رؤساء وليس له أسياد. يطيع القوانين، ولكنه لا يطيع إلا القوانين، وهو بقوة القوانين لا يطيع البشر"18 .

يتضح من المقطع أعلاه مدى الربط الذي يقيمه " روسو" بين "الحرية" و "المساواة" مختلفا مع ج . لوك الذي أقرن الحرية بالملكية، وجعل هذه الأخيرة شرطا للحرية ووسيلة للتمتع بها. لذلك، كان انحيازه للسيادة الوطنية، خلافا لروسو الذي انتصر للسيادة الشعبية. بيد أن روسو لا يكتفي بالربط بين الحرية والمساواة، بل يعتبر تكوين المجتمع السياسي (الدولة ومؤسساتها) من صنع الأفراد وإنجاز إراداتهم . فالشعب عنده "حصيلة مجموع الأفراد والمواطنين الموجودين فوق تراب دولة ما.وأن كل واحد منهم يملك في السيادة قسطا معادلا لقسط نظيره ."، من هنا كان ميله إلى أنظمة الحكم المؤسسة على قاعدة سيادة الشعب عبر مشاركة أوسع مكوناته، وليس الأمة مجسدة في نوابها وممثليها.

2- بصدد النتائج المترتبة عن أيلولة السيادة للشعب

يترتب عن ايلولة السيادة للشعب أن يصبح أفراده مالكي السلطات ومصدرها. فالسيادة الشعبية تفضي بالضرورة إلى الحكم المباشر، أي أن يتولى الشعب حكم نفسه دون وسيط يتدبر أموره بالنيابة عنه، إن مثل هذا النظام هو الصورة المثلى للديمقراطية ، والحال أنه ظل طوبى في التاريخ، أو تحقق في حالات محدودة جدا، قد لا تصلح نموذجا للإحالة والاسترشاد19 . مقصد القول في هذا المقام، أن ارتكازالدستور الديمقراطي على قاعدة أن "الشعب صاحب السيادة ومنبع السلطات"، يراد منه بناء شرعية السلطة على مبدأ المشاركة والقبول الطوعي والإرادي ، فحين يتحقق ذلك، وتغدو السلطة في منأى عن كل أشكال الاغتصاب، يختار المحكومون طرق التعبير عن سيادتهم ،بما تسمح به ظروفهم وأوضاعهم العامة. فقد يجنحون إلى اعتماد آليات الحكم المباشر الذي يعد الشعب مناطه، أوقد يرجحون طرق الحكم غير المباشر، الذي دون أن يجرد الشعب من أحقيته في السيادة والسلطة يسمح له بتفويض أمره لمن يراه جديرا بالنيابة عنه،وفي كل الحالات أصبحت خطوط التمييز بين نمطي السيادة إجرائية أكثر منها قطعية، بل إن العديد من الدساتير تنص على النوعين معا في أحكام وثائقها.20

في معنى الوكالة الإلزامية

تستمد نظرية "الوكالة الإلزامية" mandat impératif " أسسها من مقتضيات القانون الخاص، حيث تنشأ علاقة تعاقدية بين "الموكل" و "الوكيل" يسمح بواسطتها للثاني بالتصرف في أمور الأول ولحسابه، شريطة أن يبقى الوكيل خاضعا للموكل وتابعا لرغباته ومصالحه.21 فأخذا بهذه النظرية يكون "الناخبون في وضعية من يصدر مسبقا تعليمات ملموسة وأمرية، أي يحدد الناخبون القرارات التي يتحتم على الناخب أن يتخذها وكذلك الاتجاه الذي ينبغي أن يظل متمسكا به،.."22 مما يعني أن على النائب أو الوكيل أن يرتبط بالناخب أو الموكل بمجموعة من الواجبات تفقده كل استقلاليته لأداء وظيفته وممارسة نشاطه.فالنائب ،في هذه الحالة، لا يمثل الوطن ككل، بل الدائرة التي انتخبته، مما يعني أنه ملزم بحدود الدائرة التي صوتت عليه واختارته بهذه الصفة ، وكل خروج عن هذا الإطار يكون تحت طائلة المحاسبة التي قد تصل حد الإقالة، كما هو معتمد صراحة في العديد من الدساتير23

ب-حول قاعدة التفويض

يختلف التفويض عن التفويت في احتفاظ المفوض بحقه كمالك أصلي للسلطة، في حين يفضي التفويت إلى انتقال الحق من شخص إلى آخر كما تنتقل الملكية أو ما شابهها. فالمفوض له ليس مالكا للسلطة ، إنه ممارس لها بما قضت به اتفاقات التفويض.. ربما كانت نظرية التفويض أكثر النماذج إجرائية لاستحالة إدراك الديمقراطية في صورتها المباشرة. لذلك، ارتبطت فكرة التفويض بنمط الحكم التمثيلي،حيث "تمثل الأمة في ممارسة السيادة هيئات منتخبة تفوض بممارسة سلطات الدولة ، فالشعب في هذا الحكم لا يتخذ مقرراته بنفسه وإنما يسمي الذين يقررونها مكانه وباسمه، ويكون عمله انتخابيا محضا24".

تجدر الإشارة إلى أن نقد أطروحة السيادة الوطنية، المؤسسة على مفهوم الأمة، كان مرده احتراز أنصار هذه النظرية من فكرة المشاركة السياسية الواسعة وسعيها إلى إحاطتهابقيود وموانع متعددة كما أسلفنا القول. بيد أن تقدم الممارسة الديمقراطية وترسخ آلياتها، وتراكم الثقافة السياسية المعبرة عنها ، ساعد على قبول أن تفوض الأمة سلطاتها لاستحالة ممارستها مباشرة من الناحبتين العملية والموضوعية، ويمكن القول أن الإصلاحات العميقة التي طالت النظم الانتخابية البريطانية خلال أواسط القرن التاسع عشر دفعت في اتجاه لاستيعاب التدريجي لقاعدة التفويض وإقرار مفهوم التمثيلية la représentation .

يقضي مبدأ التفويض أن تسري أثاره على ممارسته وليس على أصله. فالقاعدة أن تبقى السيادة لاصقة بالأمة ولا يمكن النزول عنها، فلها حق تعديل التفويض متى شاءت، أو توقيفه أو إنهائه بمحض إرادتها كلما شعرت بوجود ضرورة أو حاجة إلى ذلك. لعل الذي يمنح تفويضا السلطة طابعه الحقوقي بأسلوب التمثيل، ومؤاده أن أعمال ممثلي الأمة المنتخبين لا تعبر عن إرادتهم بل عن إرادة الأمة، ولا تجري لمصلحتهم بل لمصلحة الأمة"، غير أن مبدأ التمثيل وإن كان يقترب في مدلوله في الحقوق الدستورية من الوكالة في الحقوق الخاصة، فإن ثمة ما يجعلهما مختلفين،إذ يستمد الممثل المنتخب شرعيته من سلطة الاقتراع،وإن ذهب اتجاه في الفقه الدستوري إلى أن العلاقة بين الناخب والمنتخب هي نفسها الموجودة بين الوكيل والموكل، مما يعني أن هناك وكالة شخصية وأمريه تلزم كل نائب بالارتباط بدائرته. ففي الواقع لم يجد هذا الاتجاه ما يسنده داخل الفقه الدستوري، حيث رجحت الغالبية أن يكون للوكالة (التفويض) مدلول في الحقوق العامة مختلف عما هو عليه في الحقوق الخاصة، وقد تم تفسير ذلك بأن "الوكالة تعطى من الأمة بمجموعها إلى البرلمان بمجموعه، على الرغم من تجزئة الانتخاب على دوائر انتخابية بدافع الضرورة العملية، وهي بذلك تكون تمثيلية لا أمرية أو إلزامية، يتحول النائب من خلالها ناطقا باسم الأمة ككل وإن حظي بتصويت الناخبين في دائرته المحدودة والمحددة.

فهكذا ، تبدو أهمية أن تكون السيادة لشخص اعتباري معنوي، أكان الأمة بالمعنى الواسع، أم الشعب كفرع منها، وليس لفرد طبيعي بعينه، أكان ملكا أم أميرا أم حاكما بصفات أخرى. فحين تتجسد السيادة في الأمة أوفي الشعب، يكون الولاء لشخص اعتباري مجرد، يدين له الجميع، فتكون العلاقة عندئذ مبنية ليس على الامتيازات التي يهبها الحاكم، باعتباره شخصا طبيعيا، ولكن مؤسسة على نظام المواطنة الذي يجعل الناس متساوين قانونيا في الحقوق والواجبات. إن مسيرة الديمقراطيات الحديثة حبلى بمثل هذه النماذج التي انتقل فيها الناس من الولاء لشخص إلى الولاء للأمة، فحققوا بذلك مواطنتهم، ونزعوا عنهم صفة الرعية. لقد اخترقت روح الثورة الفرنسية(1789) قطيعتان :قطيعة استبدال الولاء لشخص الملك بالولاء للأمة (مات الملك عاش الملك)، وقطيعة إحلال المواطنة موضع الرعية..وفي الظن أن مثل هذه الروح هي التي أذكت جذوة التغيير في فرنسا وفتحت أفق التطور نحو بناء جديد للسلطة والحكم والمؤسسات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق