تراجع الحريات العامة في المغرب وفرضية المصالح الاقتصادية للدولة - مدونة تحليل السياسات

اَخر المشاركات

منصة إلكترونية تعنى بقضايا المعرفة السياسية

الجمعة، 25 أكتوبر 2019

تراجع الحريات العامة في المغرب وفرضية المصالح الاقتصادية للدولة


ذ. نادية البعون*  




خلال الثلاث سنوات الأخيرة، تراجعت الحريات العامة في المغرب بشكل ملحوظ،  شاملة تراجعا في حرية التعبير، وحرية الصحافة، وحرية المظاهرة في الطرقات العامة. سنقتصر في هذا المقال على حرية التظاهر، التي تراجعت، بشكل قليل، وغير ملحوظ، سنة 2012، عبر لجوء الحكومة المغربية إلى تطبيق القانون في تعاملها مع تنظيم المظاهرات في الفضاءات العمومية، لتتراجع بشكل كبير ، وملحوظ في أواخر سنة 2017. لقد برز  هذا التراجع  في منع حركة الريف بعد تنظيم أضخم مظاهرة بمدينة الحسيمة يوم 18 ماي 2017، قادها ناصر الزفزافي، متزعم "حراك الريف"، كرد على ما تضمنه بلاغ أحزاب الأغلبية الحكومية، الذي اعتبر أن الحراك له طابع انفصالي، وبتلقي النشطاء لتمويلات أجنبية. ليتراجع "الحراك" باعتقال النشطاء، ومحاكمتهم بسنوات طويلة، كما تم اعتقال الصحفي حميد المهدوي الذي شارك في مسيرة 20 يوليوز 2017، التي منعتها السلطات، وتابعته بتهمة المشاركة في تنظيم مظاهرة غير مصرح بها، والتحريض على المشاركة فيها. وفي مدينة جرادة، اعتقلت السلطات نشطاء الحراك الذي اندلع في دجنبر 2017، احتجاجا على موت شقيقين في منجم لاستخراج الفحم الحجري، ليتحول الاحتجاج إلى المطالبة بتنمية المدينة. 
كان قمع الحركات المطلبية عاملا أساسيا لتراجع موجة الاحتجاج، فبعدما تم تنظيم حوالي 14.400 مظاهرة بالشارع العام بكل حرية خلال سنة 2016 فقط، بمعدل 39 مظاهرة في اليوم، وتجاوب السلطات إيجابا مع تنظيم 9581 تظاهرة بالشارع العام خلال النصف الأول من سنة 2017، بمعدل 50 تظاهرة في اليوم، تم قمع حركة الريف. وفي سنة 2018، وبعد التخوف من اقتحام الفضاء العمومي، ظهرت حركة المقاطعة لبعض المواد الغذائية، على مواقع التواصل الاجتماعي. وكان لافتا عودة "السلطوية" في تدبير الحركات الاجتماعية، بعد موجة الانفتاح التي عرفها المغرب منذ سنة 2011، وتبني إصلاحات سياسية، وإصدار دستور جديد ينص على جملة من الحقوق والحريات. ففي مارس 2019، قامت السلطات بتفريق مظاهرة لتنسيقية الأساتذة المتعاقدين بخراطيم المياه.
 وفي تدبير الحكومة لاحتجاجات الطلبة الأطباء على إصلاح التكوين في مهن الطب، أصدرت بلاغا ربط بين انتماءات مفترضة للأساتذة الأطباء لهذه الجماعة ودعمهم للحركة. مما جعله عرضة للانتقاد لدى الرأي العام المغربي، حيث من المعروف على مناضلي العدل والإحسان أنهم حينما يشاركون في حركة لديها مطالب اجتماعية، فهم يظهرون بصفتهم الفردية، ويتوجسون من إظهار انتمائهم السياسي، كما يتوجسون في الغالب من قيادة حركة مطلبية حتى لا تعتقد السلطات بأنهم يقومون بالتسييس. وذلك على خلاف عندما يخوضون غمار النضال السياسي. كما كانت احتجاجات أساتذة التعاقد وطلبة الطب تجري في إطار سياسة الإصلاح عبر تعديل السياسات العمومية بتوصية من صندوق النقد الدولي، وهي إصلاحات تقشفية نمت الاحتجاج، بسبب تراجع الدولة الراعية عن أدوارها الاجتماعية، حيث تتشبت هذه الفئات بالقطاع العام. إذ يندرج احتجاج الأساتذة المتعاقدين في إطار تطبيق اللامركزية المالية بهدف تخفيض كثلة الأجور، والحكومة المغربية لديها التزامات دولية في هذا الجانب. واندلعت احتجاجات الطلبة الأطباء بسبب إصلاح  التكوين في مهن الطب. 
كانت السلطات في تدبير ها لحركة الطلبة الأطباء، أمام تحدي ألا تتوسع دورة الاحتجاج بفعل الدعم والتضامن، حيث لجأت إلى توقيف أساتذة الطب وآباء الطلبة، كمؤشر واضح على أنها لا تتسامح مع "ما تعتبره" في تقديرها أو "تأويلها"فعل التحريض على الاحتجاج، مثل دعم الأساتذة والآباء لاحتجاجات الطلبة .كما اعتُبر أيضا من منظور السلطة بمثابة إخلال بواجب مهني. 
في كل الحركات التي جعلها تدبير السلطات تتراجع، يشكل توسع وتطور دورة الاحتجاج أهم تحد. لكن، هذا التحدي لا يعد السبب الرئيس الذي يفسر التراجع الملحوظ في الحريات داخل الفضاء العام. حيث تُرجح فرضية المصالح الاقتصادية للدولة.
فرضية المصالح الاقتصادية
في الوقت الذي تتجه فيه أغلب التحليلات في تفسير التراجع في الحريات إلى العامل السياسي، مثل استرجاع هيبة الدولة التي فقدتها بعد احتجاجات 2011، في إطار ما سمي باحتجاجات "الربيع العربي"، تُطرح، بشكل قوي، فرضية المصالح الاقتصادية للدولة المغربية التي تسعى إلى تحقيق الإقلاع الاقتصادي في أفق سنة 2040، واللحاق بالدول المتقدمة، عبر تطبيق إصلاحات على السياسات العمومية، بهدف تخفيض كلفة القطاع العام، والتوجه نحو التركيز على القطاعات الإنتاجية عبر تمويلها بالقروض، بهدف تحقيق الرفاهية الاقتصادية، عبر العجز المنظم. 
إن الطموح المتمثل بالالتحاق بالدول المتقدمة، هو ما أسماه ملك البلاد، في خطاب الذكرى العشرين لعيد العرش، بالمرحلة الجديدة التي يريد أن يقود المغرب لدخولها، وهي مرحلة جديدة من التنمية الاقتصادية والاجتماعية، يتم فيها استثمار ما يزخر به المغرب من طاقات ومؤهلات لتحقيق أكثر مما تم إنجازه على مستوى التنمية الاقتصادية والاجتماعية. مرحلة يتم فيها تحقيق ازدهار اقتصادي، ويبقى طموحها الأسمى هو التحاق المغرب بركب الدول المتقدمة، ويعد تجديد النموذج التنموي المدخل لهذه المرحلة، عبر إحداث تحول جوهري على مستوى التنمية الاجتماعية والاقتصادية عبر تجديد النموذج التنموي القديم.
يتطلب تحقيق الرفاهية الاقتصادية مستقبلا، تطبيق مجموعة من الإصلاحات التي شملت تعديل السياسات العمومية. ويحتاج استكمال مسيرة الإصلاح إلى الاستقرار وعدم وجود حركات اجتماعية. ولهذا السبب، ترجح المصالح الاقتصادية للمغرب، كأقوى فرضية قد تفسر عودة "السلطوية"، سيما وأن المجتمع المغربي وقعت فيه تحولات عميقة وملحوظة خلال العقدين الأخيرين، بحيث أصبح المجتمع فاعلا، وبعد سنة 2011، ارتفع منسوب الوعي السياسي، وقد لاحظنا في خريف سنة 2016، كيف ظهرت حركة الريف من مجرد احتجاج على حادث إلى المطالبة بتغيير السياسات العمومة.  كما وقع تحول في مطالب الحركات الاجتماعية التي أصبحت تطالب بتغيير السياسات العمومية كلما تضررت منها، باعتبار أن المجتمع أصبحت لديه الفاعلية، حيث أصبح قادرا على تأطير نفسه بنفسه.
ما يعزز فرضية المصالح الاقتصادية كأهم فرضية مفسرة، هو وجود تلازم بين الوقت الذي تراجعت فيه الحريات، والوقت الذي طبق فيه الإصلاح عبر تدابير تقشفية، كانت لوحدها كفيلة باندلاع موجات من الاحتجاج الاجتماعي والاقتصادي واتساع دائرة المطالب التنموية، والحركات المطالبة بتغيير السياسات. لكن، ما يعززها أكثر، هو تقارير صندوق النقد الدولي. ففي تقرير المغرب في أفق 2040، الاستثمار في الرأسمال اللامادي، لسنة 2017، يطمح المغرب إلى تسريع وتيرة اللحاق الاقتصادي بالدول المتقدمة خلال العقود القادمة، وإلى أن يصبح أول دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا غير منتجة للنفط تنضم إلى هذه الدول.  حيث يطمح المغرب إلى الارتقاء لبلوغ الوضع الاقتصادي لفئة البلدان ذات متوسط الدخل العالي وتسريع اللحاق بالركب الاقتصادي للبلدان المتقدمة.
وفي تقرير البنك الدولي، آفاق الاقتصاد الإقليمي لسنة 2018، اعتبر على أنه "من شأن تصاعد الصراعات أو تدهور الأوضاع الأمنية الإقليمية، أو تكثف القلاقل الاجتماعية المحلية، أو حدوث إرهاق ناتج عن الإصلاح، أن يؤدي إلى الانحراف عن مسار تنفيذ السياسات والإصلاحات، وإضعاف النشاط الاقتصادي.    يضاف إلى هذا التحدي، توقعات بعض التقارير والدراسات حول إمكانية اندلاع حركة سياسية في المغرب. مما قد يجعل من ضبط الحريات العامة، ليس لتفادي هذه الحركة في حد ذاتها، أو توسع باقي الحركات المطلبية الأخرى، وإنما تفاديها لكي لا يؤثر عدم الاستقرار على ما يطمح إليه المغرب من إقلاع اقتصادي في أفق سنة 2040.
لكن، في الوقت الذي تسعى فيه الحكومة إلى تحقيق الرفاه الاقتصادي عبر تدابير التقشف، ومعتمدة على العجز المنظم عبر الاستدانة لتمويل مشاريع اقتصادية كبرى، تكون قد ضحت بالتوازنات الاجتماعية لفئات عريضة من المجتمع المغربي. ويبقى التحدي الرئيسي هو ماذا بعد تحمل هذه الفئات لسياسة الإصلاح،  هل ستنجح الحكومة المغربية في تحقيق الإقلاع الاقتصادي.
توجد على الأقل، ثلاثة أسباب لطرح هذا السؤال، وهو ما إذا استثنينا طبعا أن الإقلاع الاقتصادي واللحاق بالدول الأوروبية يتطلب تعديل السياسات العمومية، وهو تغيير مهم، لم  يرافقه تغيير ثقافي مجتمعي للتكيف مع تراجع الدولة الراعية، عبر خوصصة بعض السياسات الاجتماعية، وهو ما لم تتقبله الفئات المعنية التي تشبثت بالقطاع العام. بغض النظر عن هذا التحدي الذي لا يمكن الاستهانة بأهميته، توجد ثلاثة أسباب حول هل سينجح الإقلاع الاقتصادي،   تتلخص في  تحديات التصنيع، وارتفاع حجم الدين العام الخارجي، ثم إكراهات الانفتاح على إفريقيا.
أولا، تحديات التصنيع في المغرب، وجزء منه يعود، بحسب تقرير المغرب في أفق 2040، إلى كون رجال الأعمال المغاربة يعتقدون أن قطاع الصناعة ليس بمربح بما فيه الكفاية، وتظل مشاركة الرأسمال المحلي  محدودة، حتى في القطاعات الأكثر حيوية، مثل صناعة السيارات والطيران، ويعول النمو في معظمه على فاعلين أجانب. وينفر المقاولون المغاربة والمجموعات المغربية الكبرى من قطاع الصناعة، لأنه على الرغم من التحفيزات المقدمة، تبقى المردودية المالية فيه لا تضاهي نظيرتها في قطاعات أخرى.
ثانيا، بحسب قراءة معطيات مديرية الخزينة والمالية الخارجية، منذ سنة 1998، انخفضت الديون الخارجية العامة غير المسددة بشكل تدريجي وملحوظ، وإلى حدود سنة 2004، حيث كان حجم هذه الديون  سنة 1998، 179380 مليون درهم، أي ما يمثل 46,7  % من الناتج الداخلي الإجمالي، لتنتقل سنة 2004، إلى 115310 مليون درهم، أي ما يمثل 21,8   % من الناتج الداخلي الإجمالي. ويعزى هذا التراجع إلى لجوء المغرب منذ بداية التسعينات إلى  خيار تحويل الديون العمومية الخارجية إلى ديون عمومية داخلية، بحيث انخفضت الديون الخارجية بما يقرب من 9 مليارات من الدولار ي ظرف 12 سنة ما بين 1992 و2005، في الوقت الذي ارتفعت فيه الديون الداخلية في نفس الفترة، بنسبة 38 %، أي ما يفوق 220 مليار درهم. لكن، مع عودة المغرب للمديونية الخارجية منذ سنة 2005، ابتدأت المديونية الخارجية في الارتفاع بشكل ضئيل منذ هذه السنة، لتبدأ بعد ذلك، في الارتفاع بشكل تدريجي وكبير، لترتفع بشكل ملحوظ سنة 2011، إذ وصلت الديون الخارجية العامة المسددة في نفس السنة إلى 189108  مليون درهم، أي ما يمثل 23,1 % من الناتج الداخلي الإجمالي، وظلت المديونية في ارتفاع كبير ومستمر لتصل سنة 2016، إلى 312468 مليون درهم، أي ما يمثل 30,8  % من الناتج الداخلي الإجمالي، وسنة 2017، وصلت المديونية إلى 332558 مليون درهم، وهو ما يمثل 31,3 %، من الناتج الداخلي الإجمالي.  وبحسب التقرير السنوي حول المديونية 2019، فقد تم التحكم في تطو مؤشر المديونية خلال السنوات الماضية رغم الوضعية العالمية الصعبة بفضل السياسة الحكومية التي جعلت من أولوياتها استعادة التوازنات الماكرواقتصادية من أجل الحفاظ على استمرارية المديونية. وبالتالي، فقد ساهمت التدابير المتخذة من أجل ترشيد النفقات العمومية وتحسين المداخيل، من تقليص عجز الميزانية إلى حدود 3,5 % سنة 2017 مقابل 4,3  % سنة 2016، و7,2 % سنة 2012.
يفسر أيضا ارتفاع المديونية باعتماد الحكومة المغربية، على العجز المنظم، لتمويل مشاريع اقتصادية كبرى، وتحقيق الإصلاحات التي أوصى بها صندوق النقد الدولي. 
ثالثا،بحسب تقرير المغرب في أفق 2040، "يعتبر الانفتاح الاستراتيجي للمغرب على إفريقيا جنوب الصحراء واعدا، بالنظر إلى آفاق النمو والتنمية في إفريقيا، لكن حجم الأسواق الإفريقية، لا سيما في الدول الإفريقية الناطقة باللغة الفرنسية، لا يزال حتى الآن متواضعا، وباستثناء الكاميرون والكوت ديفوار والغابون، لا يتجاوز  الناتج المحلي الإجمالي المتراكم للدول الإحدى عشر الأخرى في غرب ووسط إفريقيا المشاركة في منطقة الفرنك، الناتج المحلي الإجمالي المسجل في المغرب. ونظرا لأهميتها الاقتصادية، توفر نيجيريا، في إطار الانفتاح الحالي، فرصا اقتصادية لا يمكن الاستهانة بها. ومع ذلك، سيتعين على المغرب أن يستمر بشكل أساسي في اعتماده على قواه الخاصة لتهيئة الظروف الملائمة من أجل طلب خارجي أكثر استدامة عبر مواصلة استراتيجيته الخاصة بتنويع الأسواق المستهدفة وبالنهوض بالصادرات".
خلاصة:
قد يكون من المرجح  أن المصالح الاقتصادية للمغرب، تبرر التراجع المؤقت في الحريات، لكن من المؤكد بأنها تتطلب وصول قطار تعديل السياسات العمومية بشكل آمن، سيما في ظل الاحتجاج، والتحولات المجتمعية . وهو ما يشكل تحديا إضافيا لطموح لحاق المغرب، بالدول الأوروبية. 

باحثة في العلوم السياسية، أستاذة متعاونة بكلية الحقوق السويسي.  



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق